Friday, July 31, 2015

على ضفاف الذكريات (25) // ز.كاظم





بسم الله الرحمن الرحيم

ذات ليلة باردة من ليالي الشتاء القارس طُلب منّا الحضور إلى المركز الإسلامي.. لم نتعوّد أن نحضر إلى المركز في ليالي الأسبوع العادية، وبالذات في أسبوع اختبارات نهاية الفصل الدراسي، لكن الدعوة كانت ملحة على أن نحضر كون إحدى الشخصيات زائرة المركز وستقوم بإلقاء محاضرة، وليس من اللائق أن لا نتواجد أو أن يكون الحضور قليلًا.. حضرتُ – وحضر الكثيرون – على مضض.. أقيمت صلاة المغربين جماعة، فاختلست البصر بعد الصلاة أتفحص الوجوه لرؤية هذا الزائر.. مَن يا تُرى هذا الزائر! نعم، بسهولة عرفته.. رجلٌ غريب عنا يبدو أنه في الأربعين من عمره، لم يكن لابسًا لباسًا مميزًا، لا عمامة ولا بشت، بل قميص وبنطلون.. رجلٌ ذو نظرات حادة تعلو على محياه لحية كثيفة يخطها بعض الشيب.. يبدو من شكله أنه إيراني.. ماذا يُريد؟! ولماذا في هذا الوقت؟! ألم يجد وقتًا أنسب من وقت امتحانات الفصل الدراسي!

جلس على الأرض بعد أن رفض أن يجلس على كرسي المحاضر.. جال ببصره في وجوه الحاضرين بتلك النظرات الحادة.. ثم بدأ كلامه.. كانت محاضرته عن المناسبات الدينية كمحطات إعدادية للإنسان المؤمن ابتداءً بالإعداد لشهر رمضان المبارك تهيئة للإعداد لمحطة الحج الأكبر، وكل ذلك إعدادًا لليوم الأكبر.. يوم عاشوراء.. يوم الحسين عليه السلام.. لم تكن محاضرته عادية أو روتينية.. لم يكن الربط بين هذه المحطات واضحًا من البداية، بل استغرق وقتًا لكل محطة من المحطات الثلاث التي لم يخلو حديثه فيها من نقدنا وبجرأة قلّ نظيرها.. انتقد نظافة المركز، بل انتقد نظافة المرحاض.. في مقارنة يخجل منها الإنسان المؤمن.. أيكون مرحاض بيته أنظف وأفضل من مرحاض مكان عبادته! كيف لا يلمع ذلك المرحاض! انتقد وجودنا في قاعة كانت كراجًا للسيارات.. الحمد لله، قال واستطرد، أنكم حوّلتم ذلك الكراج إلى صالة ولكن لماذا تقفون عند هذا الحد.. يخاطبنا وتخاطبنا عقولنا وضمائرنا، أليست بيوتنا أجمل وأفضل من هذا المكان! لماذا لا نحضر إلا مرتين للمركز كل أسبوع! المركز مغلق، وصلاة الجماعة تشكو من هجراننا لها! هكذا كانت محاضرته.. ألا نخجل!

في العادة ما إن تمرّ خمسون دقيقة على أية محاضرة حتى ينتابنا السأم والملل وعلى وجوهنا تعلو تعابير تكاد تصرخ في وجه المحاضر “متى تنتهي من محاضرتك وتريحنا!”.. لكن مع هذا المحاضر كان الوضع مختلفًا، ثلاثة ساعات وأنظارنا لم تفارق نظراته الحادة.. استحوذ على انتباهنا أيما استحواذ.. كأننا أطفالًا بين يديه يحكي لنا حكاية مشوقة.. تشعر بمحاولاتنا الحثيثة على خفض صوت أنفاسنا لكي لا يفوتنا صوت حرفٍ من حروف كلماته.. لم تكن اللغة الإنجليزية – مع اتقانه لها – هي السبب.. لم يكن الموضوع ومادته هو السبب.. وإنما على هذا الرجل هالة غريبة جعلتنا مشدوهين إليه.. ثلاثة ساعات جالسون على الأرض اليابسة لا نكاد نتحرك لئلا تفوتنا كلمة يتفوه بها..

ما العلاقة بين شهر رمضان والحج الأكبر! وما علاقتهما بيوم عاشوراء! في مهارة المحاضر وبهدوء، يلقي الفكرة ثم ينظر إلينا بنظراته.. يخيّم الصمت، وكأنه يسمح للفكرة أن تدخل عقولنا وتجول في أذهاننا، لتُعمل عملها وتقوم بتوليد أفكار أخرى.. ما علاقة الذبيح (إسماعيل) بالذبيح (الحسين)! ما علاقتنا نحن بهما! أمجرد حدثان تاريخيان نُحيهما كل عام، أم لذلك علاقة بكياننا ووجودنا.. ما لنا لا نقف لله مثنى وفرادي!

قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) / سورة سبأ

وقف بعد قراءته تلك الآية.. ونظراتنا إليه تائهة.. رددها، قوموا لله مثنى وفرادى، وأشار بيده إشارة القيام.. بعد عدة مرات فهمنا أنه يدعونا للقيام لله.. قُمنا ننظر إليه تارة وننظر إلى بعضنا البعض تارة أخرى..

إن لم أتعلم شيئًا في تلك الليلة، فقد تعلمّتُ معنى الأولوية في وجودي.. لا أتذكر ذلك الأسبوع الدراسي ولا اختباراته، لكني تلك الجلسة ظلت راسخة في ذهني لما لها عندي من عظيم الأثر..  

لا أتذكر كل تفاصيل تلك الليلة، لكنها ليلة ليست كباقي ليالي العمر أيقظ فيها ضمائرنا وجعلنا نخجل من أنفسنا..


علي تضارفي بعد أكثر من عشرين عامًا على محاضرته في المركز الإسلامي في بورتلاند

من أين أتانا هذا الرجل؟!

جاءنا من مدينة رينو ولاية نيفادا! مدينة معروفة بصخب الكازينوهات في ولاية صحراوية مقفرة.. وُجد وحيدًا في تلك المدينة، فأبى إلا أن يكون مؤمنًا بالله، وقام يدعو.. من رحم الفسق والفجور آمن رجل بالله وانطلق يدعو له.. لا أعلم بالظروف التي اضطرته للجوء أو البقاء في تلك المدينة، إلا أنه لم يخضع لتلك البيئة، لم تسيطر عليه بزينتها وزخرفها، لم يركن لها، لم ييأس.. بل منها انطلق في جعل رقعة منها مكان عبادة وعلم وعمل.. كانت محاضراته الأسبوعية التي هي عبارة عن تدبر في القرآن الكريم وأحاديث أهل بيت العترة الطاهرة تدبرًا معاصرًا يمس الواقع تستمر لأكثر من ثمان ساعات.. يا لله.. ثمان ساعات تدبر وتعلّم وقراءة وتفكّر!! ثمان ساعاتٍ ونحن نضجر من محاضرة تزيد دقائقها عن الساعة الواحدة.. 

علمتُ بعد ذلك أنه انصب على تعليم الكثيرين، وهؤلاء ممن كان يحضر محاضراته الأسبوعية توجهوا للحوزة في قم بعد أن انتهلوا من رحيق العلم..  إنه رجل آمن بربه، فتعلَّم وعلَّم وعمل.. هكذا كان بكل بساطة وبدون أي رتوش..

 جاء هذا الرجل عن طريق أخ إيراني – أحمد رجب – كان يسكن في مدينة يوجين التي تبعد عن مدينتنا قرابة الساعتين.. أحمد رجب مدرس لمادة الرياضيات في إحدى الكليات في مدينة يوجين.. بعد تلك المحاضرة دأبنا أنا ونبيل على الذهاب إلى تلك المنطقة لنشارك في جلساتهم الأسبوعية التي كانت مختلفة عن جلساتنا.. كان القرآن وتدبره هو مادة المحاضرة.. هذا القرآن الذي هجرناه فصرنا غرباء عنه.. لا نكاد نعرفه إلا في المناسبات، ولا نقرأه إلا للبركة.. ساعتان ذهابًا ثم نجلس عدة ساعات في تلك الجلسة، ثم نعود بعد منتصف الليل بعد أخذ جرعات من الزاد الروحي والمعنوي.. 

أصبحنا لا نأنف من المسافات الطويلة طلبًا للعلم والفائدة.

أتذكر جيدًا أنه في نفس العام لتلك الجلسة قررنا أن نحضر مخيمًا أقيم في إحدى مدن كاليفورنيا – ساكرامنتو – وكانت المسافة قرابة الستمائة ميلٍ وتستغرق تسع ساعات بالسيارة تمر بها على جبال أوريغون وكاليفورنيا.. استأجرنا باصًا صغيرًا ورحلنا.. كان المخيم في فصل الصيف ومن إعداد المنطقة الخامسة للجماعة الإسلامية في أمريكا وكندا، وكان أغلب الحضور من الإخوة اللبنانيين وكان المحاضر عالمًا من لبنان.. وصلنا ليلًا ولم يمض وقتًا طويلًا من صباح اليوم التالي إلا وقرر الإخوة المرافقين للشيخ أن يرحلوا نظرًا لقيام اضطرابات خطيرة في مدينة لوس أنجلوس التي جاء منها الإخوة اللبنانيين على أثر الحكم الذي صدر ببراءة الشرطة الذين اعتدوا على الأسود رودني كنج بالضرب المبرح والذي تم تصويره من قبل أحد المواطنين وبثته جميع وسائل الإعلام (ذكرت خبر الاعتداء سابقًا في: على ضفاف الذكريات (16)).

أربعة من الشرطة تم توجيه الاتهام لهم باستخدام القوة المفرطة ومع وجود شريط الفيديو الذي لم تتوقف وسائل الإعلام عن بثه لمدة عام من المحاكمة، يتم تبرئتهم من استخدام القوة المفرطة! هيئة المحلفين وهو “نظام يشرك المواطن في عملية تطبيق العدالة الجنائية، ذلك أنه يكفل تمثيل المواطنين في تشكيل هيئة الاتهام أو المحاكمة – أو كليهما – بصفتهم مواطنين وليسوا متخصصين. وللتأهل للمشاركة في الهيئة التي تعرف عادة باسم هيئة المحلفين، يتم اختيار مواطنين وفحصهم بواسطة عملية اختيار المحلفين التي تسمى عملية الاستجواب للتحقق من الأهلية في المشاركة”. اشتملت هيئة المحلفين لقضية رودني كنج على تسعة من البيض، واحد ثنائي العرق، واحد لاتيني ، وواحد آسيوي. بعد صدور حكم البراءة اشتعلت لوس أنجلوس لمدة سبعة أيام بالمظاهرات وانتشر النهب على نطاق واسع، وحدثت اعتداءات وعمليات الحرق والقتل التي وقعت أثناء أعمال الشغب، و كانت تقديرات الأضرار في الممتلكات أكثر من 1 مليار دولار أمريكي. 53 شخصًا قتلوا وجرح أكثر من 2000 شخص. اضطر الجيش أن يتدخل لإيقاف الشغب بعدد 4000 جندي.

لم نتمكن الاستفادة من المخيم وطفقنا راجعين بخفي حنين.

في إحدى جلساتنا الشبابية – في بيت أحد الأصدقاء – تداولنا أمرًا تم تداوله سابقًا عدة مرات، وكانت الإجابة دومًا معروفة.. لماذا لا نشتري مكانًا للمركز عوضًا عن دفع الإيجارات الشهرية ليكون ملاذًا للجالية الشيعية.. كان السؤال يُطرح سابًقا وكان الطلاب أغلبهم مبتعثين من أرامكو وكانت الحالة المادية جيدة، لكن قصور النظر كان يستحوذ على القرار.. كان الطلبة دائمًا ما يطرحوا أن هذا المكان مؤقت لفترة دراستهم ثم سيرحلوا.. كان المركز يواجه صعوبات في جمع التبرعات الشهرية للإيجار.. لم يكن تكليف كل فرد إلا عشرون دولارًا، ومع ذلك كان التفاعل ضعيفًا جدًا.. أمسكتُ مسؤولية المالية، وقُمتُ من أول شهر بجمع التبرعات وكان المبلغ أكثر من الإيجار.. تعلّمتُ حينها أن المتابعة أولًا، وأسلوب السؤال ثانيًا كفيلان بأن يقوم رواد المركز بالمشاركة في التبرع وبروح طيبة. نعتمد في الكثير من الأحيان على أن يقوم كل فرد بتحمل المسؤولية من تلقاء نفسه، ولكننا نخفق في ذلك. ليس من العيب أن نذكر بعضنا البعض بمسؤولياتنا والتزاماتنا، خصوصًا إذا كان الأسلوب مهذبًا وأريحيًا. إن العلاقة الأخوية الأريحية بين المؤمنين كفيلة بأن تزيل الحواجز، إضافة إلى معرفة ظروفهم وتقديرها، فالبعض ينسى، والبعض الآخر قد لا يكون لديه ما يشارك به في هذا الشهر، وهكذا.. ومع كل ذلك، فإن تلك التبرعات كانت تذهب هباءً في إيجارات شهرية لمركز هو رهينة في يدِ مالك المكان.

تم طرح السؤال في تلك الجلسة الشبابية الآنفة الذكر وكان التفاعلُ مختلفًا.. لماذا لا نشتري مكانًا ونجعله مركزًا للجالية (الموجودة في المنطقة أو التي ستأتي لاحقًا!).. كان أغلب الشباب حينها يدرس على حسابه الخاص، لكن الهمة كانت مختلفة والنظرة متفائلة.. فقام كل فرد من هؤلاء الطلبة بالتعهد لدفع مبلغ ما، كلٌ بحسب استطاعته.. ألف دولارٍ من هنا، وألفان من هناك، وعشرة من هذا وخمسة من ذاك، كانت كافية لأن يتم دفع القسط الأكبر من قيمة المكان.. كانت تلك الخطوة من أفضل الخطوات التي قام بها شباب تلك المنطقة.. ولا يزال المركز قائمًا، بل تم بيعه وشراء مكانٍ أكبر مساحة وأفضل بناءً..     

المركز الإسلامي في بورتلاند أوريغون

 ارتادت عائلة أفغانية المركز بعد أن علمت بوجوده.. كانت هذه العائلة تعيش في تلك المنطقة لمدة تزيد عن ثمان سنوات لكنها لم تكن تعلم بوجود هذا المركز.. العائلة تتكون من أب وأم، وأربعة أولاد وابنتين هربا من الحروب التي مرت على هذا البلد، أفغانستان.. أحمد كان الابن الثاني.. شاب هادئ جدًا.. تقدّمتُ إليه وعرّفتُ نفسي، فرد التحية والسلام بهدوء.. تحدثنا، وطال حديثنا.. استأذن من عائلته وطلب أن يمضي بعض الوقت معي، فاقترحتُ أن نذهب إلى أحد المطاعم، فوافق.. بينما كنا جالسين في المطعم قال لي أنه مستاء جدًا من المركز، فسألته لماذا؟! فأجاب: 

يتبع في الحلقة القادمة

1 أغسطس 2015

1 comment:

  1. السلام عليكم
    محاضرة لمدة ٨ ساعات متواصلة ؟ يبين عليه عنده قدرة رائعة في فن الكلام من كلامك عنه أبوحسن
    و الظاهر: أنها كانت ليلة مفيدة جدا ، و من أهم الأسباب التي ساهمت في تطوير المركز .
    رجل ذكي يعرف كيف يحفز الناس
    و أناس ذو عزائم و طموح و إرادة ، حيث إن فكرة الاستقلال بالمركز نوقشت عدة مرات ، لكنكم ترجعون ليها مرارا و تكرارا،
    و وجود الشخص المناسب أو الموارد البشرية المؤهلة من أداء وظيفتها و إدارة المال و توفيره بشكل ممتاز

    استفسارات :
    - ويش هيه العوامل اللا خلت :"الهمة مختلفة و النظرة متفائلة"
    - ويش كنت تقصد أبوحسن ب " تعلمت معنى الأولوية في وجودي".
    - سرد ممتاز و مفصل ، كيف تذكر هالتفاصيل ، هل كنت تكتب يومياتك؟
    - علي تضارفي ( ali tazarvi ) هل لديه إنتاج باللغة العربية .

    ReplyDelete