محمد علي العلوي
يبدو إنَّه سُنَّة من سُنن الحياة، فالزوجة اليوم قد تكون الطليقة غدًا، والابن الحاضر الساعة ليس ببعيد عن الرحيل في لحظة، ويبعد القريب ويقرب البعيد، وبين غروب وشروق يوَزَّرُ طبَّاخٌ ويُعدَمُ وزير..
على الإنسان أن يكون مستعدًّا دائمًا للتحول المعاكس..
قبل أيام، وجدتُّ نفسي مشدودًا للبحث عن صور المضاين من المشهورين، وفي بعضها كانت للواحد صورة في شبابه وأخرى في مشيبه، وصورة لفاروق مصر وقد بدا شبه مستلق يضحك ملء فيه وسط قصره، وثانية لمحمد رضا بهلوي منتصب القامة وصفوف من الرجال ركَّع له، وغيرهما كثير.. ولكن:
كيف انتهوا؟ أين وكيف يحيون الآن؟
في بعض السنوات صُرِعَت في حادث سير أمُّ وابنتها وحفيدتها، وكنَّ في طريقهنَّ لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في أحد المخيمات مع أهلٍ وأقارب لهنَّ كانوا هناك، وفي إحدى الدول خسَرَ مليونير ثروته في صفقة خاسرة، وخرج في لحظة غيابٍ لعقله على إثر ذلك عاريًا في الشوارع كما جاء إلى الدنيا عاريًا، وصوَّرْتْهُ الكاميرات وانتشرت صورُه على بعض مواقع الشبكة العنكبوتية.
هكذا هي الحياة ولن تتغير، ولكنَّ الغريب في الأمر أنَّ الإنسان أيضًا يرفض التغيير، ويأبى الاتعاظ بموعظة التكوين الأكثر بلاغة بلا منازع (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
بالأمس كان يلعب ويركض ويتنقل هنا وهناك بخفَّة.. وربَّما بجبروت!
وفي تعاقب الأيام وازدحام ساعات القدوم والرحيل، لا يلتفت إلَّا ومِنْ على أكتافه يهجم الضعف بقوة لا مثيل لها، وآلاف الحمد والشكر لله تعالى إن بقي قادرًا على قضاء حاجة (الحمام) دون مساعدة من أحد..
يقاتلُ الإنسانُ ويخسر الكثير من القيم، والغاية هي الظفر بما لا يدوم لأكثر من بضع سنوات تتصرَّم وهي تنخر في عظامه حتى يهرم، ثمَّ تحتضنه كلمات قوله تعالى (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ)؛ حيث العلم يتحول إلى جهل، والذكر إلى نسيان، والقوة إلى ضعف.
كيف نتمكن من إسكان هذه الآية العظيمة في عمق وجداننا؟
يقول تعالى: (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)..
الهجرة إلى الله تعالى تعني بالضرورة مغادرة هذه الدنيا، وليس القصد إلَّا تركها بما فيها لأهلها، فهي للمؤمنين ليست إلَّا محطة للتزود، ومن روائع ما قيل في هذا البعد المحوري، ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام) وقد رجع من صفين فأشرف على القبور بظاهر الكوفة، وقال: "يا أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، يا أهل الوحدة يا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق ونحن لكم تبع لاحق.
أمَّا الدور فقد سُكِنتْ، وأمَّا الأزواج فقد نُكحَتْ، وأمَّا الأموال فقد قُسِّمتْ.
هذا خبرُ ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟
(ثُمَّ التفتَ إلى أصحابه فقال): أمَا لو أُذِنَ لهم في الكلام، لأخبروكم أنَّ خيرَ الزادِ التقوى".
عندما نفكِّر في محطَّةِ ما بعد هذه الحياة الدنيا، والتي ندخل إليها من بوابة (الموت)، وعندما نعي جيِّدًا حقيقة الأمر، وإنَّه وبكل ما تحمل الكلمة من معنى انتقال من حال إلى حال آخر أكثر جدِّية (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ)، و(وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)، فإنَّنا حينها نفهم الحقيقة التي أرادها الله تعالى لوجودنا في هذه الدنيا الدنيَّة، ومع تخلية النفس ثمَّ تحليتها بالشوق للتوبة ولقاء غفَّار الذنوب، لن يبقى في القلب مكانٌ (للأنا) وما يتشعب منها من تعقيدات دنوية لا تُحلُّ رموزُها بغير الموت.
نحتاج إلى الجِدِّ في العمل وتجنبِّ التوقُّف؛ فهذه الحياة الدنيا دار زرع، والحصاد عن قريب، فلا تتصرمن الأعمار إلَّا والزاد مرضيًّا عند الله تعالى (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ)، وأمَّا المبدأ العملي الاجتماعي الإيماني فلا يخرج عن (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).
13-6-2015
No comments:
Post a Comment