خاتمةُ مقالي السابق " التجنيس.. جريمةٌ لم يرتكبها النظام وحده" كانت همسةً وجهتها للمفصولين جراء الأزمة الأخيرة التي مرت بالبلاد منذ الرابع عشر من فبراير في العام الحادي عشر بعد الألفين، قلت فيها "في الأزمة الأخيرة التي تسببت بفصل العديد من الموظفين في القطاع الخاص والحكومي، كنت أتمنى لو تم استثمار هذا الفصل للعودة لجادة المهن والحِرف، وتنشيط أيدي المفصولين العاملة، والبحث عن تسعة أعشار رزقهم المدخرة لهم في التجارة، ولكن للأسف الشديد كل الموظفين مصرين على العودة لوظائفهم، والتمسك بحقهم في عُشرِ الرزق فقط!"
إلى ثلاثينات القرن الماضي، كانت مهن الأجداد في غالبيتها مهنٌ حرفيةٌ، والغالبية العظمى يعملون في مشاريعهم الخاصة التي يسترزقون من خلالها، سواء في المزرعة أو البحر أو ما شابه، حتى قدِمت الحكومة على توظيف جميع هؤلاء في مؤسسات الدولة وفي الشركات الكبرى مثل بابكو، فتحوّل آباؤنا الحرفيون والعمّال، لمجرد موظفين يؤدون مهامًا معينة فيستلمون راتبًا ثابتًا نهاية الشهر، مما ترتب على هذا التّحول عدة نتائج، منها:
١- لم تعد الحاجة ولم يعد بإمكان صاحب الحرفة من ممارسة الحرفة وتحمل العناء والتعب، فبقليلٍ من المجهود، سيحصل على المال اللازم بدون أن يضطر لمزاولة هذه الحرفة، فمن كان سيغيب عن أهله لثلاث أشهرٍ لصيد اللؤلؤ، لن يضطر لذلك بعد الآن، فهو يحتاج لثمان ساعات أن يؤجّر نفسه لشركة ما أو وزارة ما من وزارات الدولة، وبيومين راحة نهاية الأسبوع سيتمكن من توفير المال الذي يضمن معيشته طوال الشهر. لذلك فكان من الطبيعي أن تتحول الحرفة التي ورثها من أجداده لمجرد لقبٍ تُلقب به عائلته، وبهذه الطريقة يتحول من تاجرٍ حُرٌّ بنفسه، لأجيرٍ يعتمدُ في رزقه على ربِّ عمله.
٢- الحرفة التي مارسها الأجداد وورثها الآباء، ثم هجروها للتوجه للتوظيف، لم يعد بالإمكان أن يورثوها لأبنائهم مجدّدًا، فالأمر الطبيعي كان، أن ينشأ الإبن في حرفة أباه من صغره، فإذا كان الأبُ زرّاعًا، سيكون الإبن في مزرعة والده منذ نعومة أظافره، حتى يرثها ويورثها لأبنائه، وبما أن الأب اتجه ليكونَ موظفًا، فستكون مهمة الإبن أيضًا أن يرث البحث عن وظيفةٍ أخرى ليكوّن حياته ويؤمّن مستقبله، فتنقرض الحالة الحرفية عند غالبية أبناء المجتمع.
٣- لم يعد للأعمال الحرفية مكان، ولم تعد تناسب أبناء الجيل الجديد، فتوجهَ جميع أبنائه للبحث عن الأعمال مما جعل أوراق السِّيَر الذاتية تتكدس في الشركات والوزارات، حيث لا شواغر فيها، فتبدأُ محنةُ البطالة. من جانبٍ آخر، فإن سياسة التجنيس التي تنتهجها الدولة، وجلب العمالة الوافدة من خارج البلاد، ساهمت في تفاقم مشكلة البطالة، بصورةٍ تشكل أزمةً حقيقية وكبرى في البلاد، و أعداد الطوابير عند وزاره العمل، وديوان الخدمة المدنية قد يشرح الوضع، وبات الحصول على وظيفة مريحة براتبٍ جيّد، حلم كل مواطن، حلمٌ بعيد المدى، قد لا يتحقق. وتبقى أعداد العاطلين في ازدياد، وتبقى شهاداتهم متكدسة في الرفوف!
٤- وفق حديث الإمام علي عليه السلام "احتج لمن شئت تكن أسيره..." فإن آثار ونتائج التوظيف وتحكم الوزارات والشركات الكبرى في أعناق وأرزاق الناس كان واضحًا في الأزمة الأخيرةِ المشار إليها، فبكلِّ بساطة تم فرز الموظفين الشيعة، وتم فصلهم من وظائفهم تعسفيًا، ولا يوجد من يتمكن من تغيير هذا الواقع، فعاد المفصولون ليعتصموا دوريًا عند وزارة العمل من جديد، فهم لايملكون زمام أمور رزقهم.
تمنيتُ لو أنهم استثمروا هذا الفصل في تفعيل المهن الحرفية من جديد، وتكافلوا من أجل أن ينهض ويعمل كل فردٍ في المجتمعِ في حرفته التي لا تعتمدُ على ربَّ عملٍ يقيدها، فهذه الاستقلالية التي قال فيها أمير المؤمنين "... واستغن عن من شئت تكن نظيره ..." والكثير من الحالات التي شهدتها بعد هذا الفصل اتجهت للعمل الحر، والتجارة الخاصة، وبالرغم مما فيها من تعبٍ ومشقّة، إلا أن أكثرهم يرفضون العودة للوظائف اليوم لأنهم عثروا على التسع أعشار، والاستقلالية هذه هي ما تحفظ المجتمعات من الاستعباد ومن الاختراق ومن سيطرة الحكام والظالمين، وطبيعي جدًا أن تكون مرحلة الانتقال لهذه الاستقلالية صعبةٌ جدًا، وتحتاج تضحياتٍ كبيرة، ولكن لا بد منها، ولا بد من تحملها كي نعيش راحة وقوة هذه الاستقلالية. ومن الطرف المقابل لا بد للمجتمع نفسه من دعم هذه المشاريع المستقلّة والتجارات التي تنشأ في المجتمع وتخدمه، كما تخدم الطائفة.
أركزُ على هذه الاستقلالية، لأنها قد تكون من أهم الأسلحة التي حوربنا من خلالها، وضعفنا بدونها، فاليوم نحن كطائفة شيعية لا نتمكن من إدارة الطائفة إلا بصعوبة بالغة جدًا وبنتائج غير ملحوظة، بسبب أننا سلمنا زمام أمورنا لغيرنا، ولو كنا نعملُ باستقلالية في اتجاه تنمية الطائفة لكنا اليوم قوة لا يمكن أن يتجاهلها أي مكوّنٍ آخر، ولتمكنّا من النهوض بالطائفة لأرقى المستويات. ثم تمنحنا الاستقلالية هذه القسم الثالث من حديث أمير المؤمنين ".. وأحسن لمن شئت تكن أميره" فهذه أولًا ستنقذنا من سلطة الآخرين علينا، وثانيًا ستمنحنا قوة وسيطرة وتحكم في كل شؤوننا في هذا الإطار. لذلك فالمجتمع المستقل، مستغنٍ عن من يريد الاستغناء عنه، وبالطبع مجتمعٌ قوي في ذاته سيتمكن من مواجهة أي قوة أو خطر خارجي.
طبعًا نتكلم هنا عن الاستقلال الاقتصادي، فنركز عليه لأهميته وهذا لا يعني أنه الجانب الوحيد الذي ينبغي علينا أن نحقق اسقلاليتنا فيه، ولكن سياق الموضوع كان في هذا الخصوص.
13 سبتمبر 2014
________________________________________________
*رابط المقال السابق"التجنيس.. جريمةٌ لم يرتكبها النظام وحده"
http://ertiqabh.blogspot.com/2014/08/blog-post_27.html?m=1
http://ertiqabh.blogspot.com/2014/08/blog-post_27.html?m=1
No comments:
Post a Comment