Wednesday, September 24, 2014

رحلا // ز.كاظم


 
كنّا صغارًا نهاب نظراته الحادة.. وإذا ما وقفنا في الصف الأول من صلاة الجماعة، كانت نظرة واحدة منه كفيلة بأن ترجعنا للصف الثاني.. ولم نكن نجرأ أن نضحك أو نتحرك بطريقة ليس فيها احترامًا للمسجد.. مرّت الأعوام ورأيته ذات مرة في إحدى زياراتي للبحرين عند المسجد.. سلمّتُ عليه وابتسم في وجهي وكأنه عرفني بعد طول غياب.. ووقف يهتز مكانه على عكازه، لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام.. أنهكه العمر فأصبح لا يستطيع أن يتحرك إلا بصعوبة ومشقة، وفي هذا الموقف بادلني نظراتٍ ليست كتلك النظرات الحادة، بل نظرات كسيرة وكأنه يطلب مني أن أشيح بوجهي وأمضي في سبيلي لئلا أراه على تلك الحالة.. ودّعته ومضيتُ عنه لكني استرقتُ النظر بعد حين لأراه وقد مشى خطواته بعد جهد وعناء.. رحمه الله فقد كان مؤذنًا وقارئًا للدعاء في أحد المساجد..

صور كثيرة استحضرتها -كانت تلك إحداها- وأنا أستمع إلى صديقي يروي يومه المتميز متنقلًا بين صور الذكريات لأناس كانوا كبارًا وأصبحوا كهولًا قد أنهكهم المرض وطول العمر، لكي يعودوا من بعد قوة ضِعافًا.. هذه هي حكاية الإنسان.. يبدأ صغيرًا ضعيفًا ثم يشب ويقوى ليعود مرة أخرى للضعف.. ويا له من ضعف!

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ
الروم / 54

وبين الضعف والضعف عمر الإنسان بين آمال وطموح معتصر بخيبات ومآسي وآلام.. ونظل نمضي نحمل بين جنباتنا عبق الذكريات التي مهما كانت قاسية إلا أنها تظل جميلة خالدة في أذهاننا.. نرى الماضي ونتحسر على رحيله ليضيع حاضرنا إمّا في زحمة الانشغالات وإمّا حسرة على ماضٍ ربما لم يكن جميلًا إلا في ذكرياتنا.. وبين هذا وذاك فلنوقف الزمن للحظة واحدة..

توقف هنا.. لفترة قصيرة.. دعك من كل ما يحيطك.. وركّز.. وتخيّل.. 

تخيّل أنك بلغت من العمر مبلغك وأصبحت كهلًا.. تخيّل عدم قدرتك على إطعام نفسك.. أو تخيّل جسدك يعتصره الألم من المرض.. أو تخيّل أنك على سرير لا تقوى فيه على الحركة.. أو تخيّل أنه لم يبقَ في العمر باقية.. تخيّل كيف سيصبح حالك عندما تصبح كهلًا..

صورة قاتمة أليس كذلك؟

بإمكانك أن لا تجعلها قاتمة إذا عرفت كيف تعيش هذه اللحظة.. انظر حواليك، وتأمّل..


هل لديك كتابًا توّد قراءته وكثرة المشاغل لا تترك لك وقتًا للقراءة لتنمي قدراتك العقلية والذهنية وتفتح لنفسك آفاقًا من المعرفة والعلم؟ ماذا لو بدأت بتنظيم وقتك ووضعت برنامجًا للقراءة قبل أن يضعف النظر وتقلّ الحيلة!

هل أنت مشغول بالخلافات والصراعات فتعيش القلق والعصبية؟ ماذا لو حاولتَ أن تتفهم طبيعة الخلاف والصراع بصورة موضوعية قاعدتها إخلاص النية وعمادها تحويل الصراع إلى حالة من التفاهم بينك وبين الآخر! ثم ما قيمة هذه الصراعات وأنتَ أقرب ما تكون وفادة إلى حياض الباري عز وجل!


هل لديك شخص تعاني من صعوبة في التواصل والتعامل معه بسبب موقف -أو مواقف معينة- وتحمل في قلبك بعض الحنق أو الغضب عليه؟ ماذا لو كنت ليّنًا وحاولت أن تصفي قلبك وعقلك وذهنك من تلك السوابق وتبدأ بالتواصل والتعامل معه مجددًا بروحية أصفى ونظرة إلى المستقبل أنقى!

تخيّل أنك بدأت الآن بتحقيق الطمأنينة في نفسك وبثّها فيمَن حواليك، ألا تعتقد بأنه إن خانك الجسد وهرم ستظل روحك متألقة ونفسك مطمئنة!

الجسم سيهرم.. النظر سيضعف.. السمع سيثقل.. الحركة ستقل.. هذه كلها مظاهر الشيخوخة والهرم.. لكن الروح ليس بالضرورة أن تهرم مع كِبر العمر..

أَخَوان في السبعين من العمر.. لازما المستشفى لأشهر قبيل رحيلهما إلى بارئهما.. أحدهما لا تفارق الضحكة والبَسمة شفته، والآخر لم تعرف البَسمة شفته..

رحلا في أسبوع واحد..

لو كنتَ أحدهما فمَن تختار؟


27 سبتمبر 2014

No comments:

Post a Comment