Thursday, September 25, 2014

قِيامُ (جَمَل) البَحْرَين // محمد علي العلوي




قالوا قديمًا: "إذا طاح الجمل كثرت سكاكينه"..
 
وإلا، فهو قائم على أربعة، رافع إلى الأعلى عنقه، فإنَّ ضربةً من خُفِّهِ كفيلة حينها بأنْ تجعل وجه الذي تصيبه شبيهًا بالمكواة القديمة!!
 
الجملُ.. سفينة الصحراء، يأكل العشب ويشرب ثمَّ يعمل طويلًا ويُبدع في عمله واثقًا من قوَّته وعلوِّ جَلَدِهِ..
 
قويٌّ بِسَنَامِه وقوائمه وطُول عُنُقِه بانحناءته الهلالية، ولكنَّ هذه القوة تعود رُكامًا بلا حول إذا ما تَلَقَّاهَا في منحره ضربةً يَصُبُّ دمُه منها ميزابًا يَخُرُّ هو في بحره صريعًا..
 
مثل (الجمل) يأكل القليل ويشرب ثم إنَّه يعمل ولا يريد التوقف إلا لشيء من الراحة تعيده إلى قوَّة العطاء بدون حدود..
 
هكذا هو العالِمُ ومثله المُثَقَّفُ تحت سَنَامِ العلم والمعرفة ينطلق كلُّ واحد منهما في أشدِّ الظروف وأقساها، وهذا مشروط بصدقه وإخلاصه وحبِّه لزكاة علمه، وإلا فهو عالم سوء أو مثقف ضلال!
 
لهذا النمط الفاضل من العلماء والمثقفين هواء نقي تحتاجه صدورهم، وأمَّا منعه عنهم فهو ضربة في منحر وجودهم يخرون على إثرها صرعى كما تخرُّ الجمال وسمفونية الأسى تعزف من خلفها نعيقًا..
 
نمتلك في مجتمعنا شرائح وطبقات ضخمة من العلماء والمثقفين وعلى مستويات عالية جِدًّا، ولكِنَّها -في الوقت المشهود- ليست إلا مجموعات من الركام موزعة على الأرصفة وبعض (الحانات)، ولذلك فإنَّ الصوت الأعلى عندنا هو صوت الجهل والفتنة والصراعات والنزاعات وكُلِّ سيء يتقزز منه (خُفُّ) الجمل، ولكنَّه ويا للأسف.. لا حول له ولا قوة، فهو في جَوٍّ خانِقٍ قد شَحَّ فيه (الأكسجين)..
 
ما هو أكسجين العلماء والمثقفين؟ ما هو الهواء الذي تتنفسه صدورهم؟
 
لاحظوا –أيها الأكارم- معي..
 
يقول تعالى: (لِتَعَارَفُوا).. (ادْعُ).. (وَجَادِلْهُم).. (وَشَاوِرْهُمْ).. (بَلِّغْ).. كُلُّها وغيرُها آيات تبعث على الحوار وتبادل الرؤى والأفكار مع مختلف الأطياف، وهذا هو بالفعل الهواء الذي يتنفسه العلماء والمثقفون، بل هو حياة المجتمع السليم، ولكنَّ غياب التلاقي وضعف الالتقاء مع كدورة مياه الانفتاح تساوي وبشكل مباشر (سقوط) الجمل..
 
تعالوا لنتخيل..
 
تعالوا لنتخيل مؤتمرات ومنتديات وندوات وملتقيات وصالونات ورحلات تكسر سخافة الانغلاق التحزبي وجدرانه الكريهة، فتختلط الهامات وتتعانق الأدمغة والأحضان لمصلحة فكر ينطلق على طريق البناء بقوة وشموخ، فمما نحتاجه اليوم هو أن يلتقي العلماء والمثقفون من مختلف التوجهات، لا للمناظرة وانتاج الجدليات، ولكن لمحاورات عقلية ثقافية فكرية كُلٌّ يطرحها من زاويته، فتتكثر الزوايا، ومعها تتفتح آفاقُ ثقافةِ البناء (النقي) بين يدي المجتمع.
 
من العجيب جِدًّا أن نجد ما نجد من فِراق غريب بين شريحة من علماء الدين وأخرى من المثقفين الجامعيين، والأغرب أنَّ الشريحة الأولى تتهم الثانية بضعف الفهم وقلة النضج، والثانية تتهم الأولى بالتخلف والجمود، وعندَّما تتحرك المياه الراكدة ويُرَتِّبُ البعض للقاء بين الطرفين، فإنَّ النَفَسَ الذي يحمله المتحاورون من الطرفين -غالبًا- ليس إلا نَفَسَ الغلبة والإفحام والإسكات و(الإفشال) وكأنَّهم أعداء كُلٌّ منهم يريد تمزيق الآخر وتشويه صورته، وإن كان الثمن هو الكذب والتدليس والتلبيس!!
 
نحتاج بالفعل إلى كُلِّ طاقة علمية وكفاءة ثقافية لتندمج مع مثلها في منظومةِ عطاء فكري تُنْزِلُ غيثه تلاقحات على قدم وساق تُنْتِّجُها اللقاءات المنوعة بين العلماء والمثقفين حتى يُصْبِحُوا غالبيةً (عظمى) في مجتمعنا..
 
ولنحذر، فقد سقطتْ جِمال وجِمال على مَرِّ تاريخنا (الجريح)، وينبغي أن يكون اليوم قد أتى، فلنُنهض الجمل (وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى).
 
27 سبتمر 2014

No comments:

Post a Comment