Saturday, June 21, 2014

إصلاحُ الأُمَّة .. مشروعُ الإسلام الأول // أبو مقداد


 
 
المشروعُ النهضوي الفكري، الذي بدأهُ خاتمُ الأنبياءِ مُحمدٍ صلى الله عليه وآله، والذي أعلنَ اكتمالهِ في يومِ الغدير، تعرَّضَ لنكسةِ انقلابِ الغالبيةِ الكاسحةِ على أعقابهم، وما كأن نبيهم أوصاهُم بشي، إذ تمت مخالفة أهم شرطين اشترطهما النبي، في نجاح واكتمال مشروعه السماوي، وهما ولاية علي بن أبي طالبٍ كشرطٍ لاكتمال الدين، والالتزام بالقرآن والعترة في حديث الثقلين كشرطٍ للهداية عن طريق الضلال. والشرطان متكاملان، فبعد سنينِ دعوة الرسولِ لدين الحق، وبعد إشاراته الواضحة -التي لا تحتاج لأي تأويل- إلى الطريق السليم، يبقى مع الإمام علي أربعةٌ من أصحابهِ ثابتين فقط على ذات الطريق، بينما جميعُ من شهد الحديثان وغيرهم، منشغل بالعمليةِ الانتخابية الديمقراطية الكبرى، والأولى في الإسلام لانتخابِ الخليفةِ الأول، ضاربين بها كلام نبيهم عرضَ الحائط، هادمين في السقيفة، البناءَ الذي اجتهد النبي في تشييده طيلة ثلاثٌ وعشرونَ سنة، وبهذا يعودُ غالبية مجتمع قريش للجاهلية التي خلصهم منها الإسلام، فماذا صنعَ أمير المؤمنينَ علي (ع)؟

كانت المرحلةُ صعبة جدًا، ومسؤوليةٌ ثقيلةٌ على كاهلِ أمير المؤمنين (ع)،  فاليوم هو بات يحملُ مسؤليةَ تفعيل وإحياء دين النبي الأكرم، وإعادةِ البوصلةِ لشمالها الحقيقي، وهدمِ أصنام الجاهلية التي بُنيت في العقول، مع ملاحظةِ أن كل ما يملكهُ من الرجال، غيرَ أهلِ بيتهِ أربعةٌ فقط!

نظرةٌ من خارجَ الصُّندوقِ للمشهد، بمقارنةٍ بسيطة، يقولُ المؤرخونَ أن عدد المسلمين الذين شهدوا حادثةَ عيدِ الغديرِ الأغر يتراوح بينَ مائة ألف، ومائةٌ وعشرونَ ألفًا، وكما ينقلُ لنا ذاتَ التأريخِ أن من بقي مع عليٍّ أربعةُ أشخاصٍ فقط، نلاحظُ أن هناكَ مشكلةٌ رئيسيةٍ عندَ ما يُسمَونَ بأشرافِ قُريش، وفي حُبهم للسلطة، وجشعهم الطائل، والتضحية بالمجتمع الإسلامي كلهِ من أجلِ إشباعِ رغباتهم. والمشكلة الثانية والكبرى تكون في المائة وعشرون ألفا الذين شهدواحادثةَ الغدير، وبايعوا علياً في تنصيبهِ للخلافةِ بعدَ النبيّ ص)، ثم عادوا لينتخبون غيرهُ ليكونَ خليفةً على المسلمين، وعُنوِنَ عملهم بأنهُ قُربةً للهِ تعالى!!

لهذه المشكلة بُعدان، البُعدُ الأوّلُ هوَ جهلُ الناسِ وركوبهم أي موجةِ ارتفعت أمامهُم، دونَ أي يدركوا فداحةَ ما يفعلون، وهذا الجهلُ إن كان بسيطاً ومقصودًا في بدايته، فتلقائياً سيتحولُ لمشكلةٍ كبيرةٍ وجهلٍ مُرَكَّب في قادمِ الأيام. أما البُعدُ الثاني للمشكلة، فهو معصيةُ الله، ومخالفةِ أوامر ووصايا الرسولِ علنًا باسمٍ الدينِ والإسلام، الأمرُ الذي منحَ السقيفة شرف صناعةَ دينٍ آخرٍ ضدَّ الدينٍ الحقيقي الذي أنزلهُ الله على قلبِ محمد صلوات الله وسلامُه عليه!
 
(سنناقشُ في هذا المقال، البُعدُ الأولُ لنوفيه حقَّهُ، وقد يكونُ البُعدُ الثاني هو انطلاقة مقالِ الأسبوعِ القادم)

الإمام علي عليه السلام:
أسوأُ من الأعداءِ، هم الجهلةُ المُغيبةُ عقولهم، والذين ينعقون خلفَ كل ناعق، فهؤلاء، لا تتمكن من إزاحتهم عن طريقك، ولا تتمكن من الثقةِ بوجودهم معك، وهم يشكلون عقبةً وأزمةً حقيقية في كلٍّ عملٍ ستقومُ بهِ معهم أو بدونهم، لذلكَ كانت مهمتهُ الأولى هي مواجهةِ جهلهم وإكمالِ عقولهم.


واجه أميرُ المؤمنين سياسات الدولةُ الغاصبةِ بشكلٍ ضمني في الغالب، ولكن تركيزهُ الأول كانَ يصبُّ في هذهِ الأمةِ ووعيها، وقوتها، وصلابتها، لا في مواجهةِ مع الدولةُ التي لا يملكَ الأدوات التي تمكنه من محاربتهم بها.. فكان يضربُ أروع وأكبر مثالٍ في العدالة، والإحسان، والصدق، وكان الرجل الوحيد بعد النبي محمد (ص) الذي التزمَ بجميع القيم التي يتبناها الدينُ الحنيف، وكانَ مثالًا للقائدِ المُعارِض الذي لَم يتغيَّر حينَ استلمَ منصبه وقادَ الدولة، فصنع من نفسهِ نموذجًا للمسلمِ المثالي، وأثبتَ إمكانية تطبيقِ هذا الدين، لدرجةِ أن تمثَّلَ الإسلامَ في شخصٍ وهوَ "علي"، وبهذا المنهج كانت سيرةُ المعصومينَ جميعاً، حيثُ صُبَّ جُلَّ اهتمامهم على هذا المجتمع الذي ارتدَّ بعدَ هَديِه، ولن يسَعنا في مقالٍ أن نستعرضَ دورهم جميعهم، لذلك سنطوفُ ببعضِ المحطات المهمة، التي نتمكنُ من إيصالِ الفكرةِ العامة.

الحسين عليه السلام:
على الرغم من تهديدِ يزيدِ المباشَرِ للحسينِ، وإباحة سفكِ دمه ولو كانَ مُتعلقًا بأستارِ الكعبة، إلا أنه لم يتجه في بادئ الأمرِ للمواجهة المُباشرةِ مع يزيدٍ الفاجر، إنما خرجَ ليُعالجَ الأسباب التي مكّنت يزيدَ من الطغيان لهذا الحد، فحجَ متسترًا من مكةٍ وشعارهُ الأوّل "إنما خرجتُ لطلبِ الإصلاحِ في أمَّةِ جدِّي" فقد كان إصلاحُ الأمةِ هو هدفهُ الذي ينشده، وحتى في معركتِهِ كان همّهُ إصلاحَ الأمةِ لولا أنه اضطّرَ لحربه ضد جيش يزيد!( ١)

الإمام الباقر، والإمام الصادق عليهما السلام:
عكفَ الإمام الباقر عليهِ السلام على تأسيس المدرسة العلمية التي تحولت لعملاقةِ المدارس فيما بعد، والتي اعتمت بشكل رئيسي على نشر أنواعَ العلومِ المُختلفة والمتنوعة في الأمةِ والمجتمع الإسلامي، ووضع أساس البحث العلمي، والحث على طلبِ العلمِ والكتابةِ والقراءة، ليكملَ من بعدهِ الإمام جعفر الصادق عليه السلام ما بدأهُ الباقر، فيبتَّ في مُختلف العلوم، العقلية والدينية والفيزيائية والكيميائية والتاريخية والفلكية والطبية والرياضية وووو...، متفادينَ بشكلٍ كبيرٍ خلق الصدام والتحدي مع الدولةِ الظالمةِ آنذاك من أجلِ انجاح مشروع إصلاح الأمة والمجتمع، فازدهرت في عصرهما العلوم، والرغبة في طلبِ العلم ونشرهِ، وهذا كانَ تأسيسًا مكَّن الكثير من العلماء آنذاك من التوسع في الكثير من العلوم المختلفة، ولو انشغلَ الإمامان بمواجهة السلطة، لما تمكنا من إنجاح مشروع المدرسةِ العلمية التي لم تُنشَأ في التأريخِ مدرسة مثلها!!

وقد كان يتيح المجال لكل عالمٍ وجاهل أن يطرح آراءه وبحوثه العلمية وحُججه وبراهينه، بل ويشجِّع عليها، ولا يكاد أن يمرَّ يومٌ في بغداد آنذاك بدون أن يتم إصدار كتاب جديد أو رسالة علمية، وإن كان بعضها في قمة الانحراف عن الحقيقة، بل أسس الصادق عليه السلام ثقافة الورَّاقة(٢) التي ازدهرت كمهنة رائجة في عصره، حتى يتيح لكل من يحمل الفكر أن ينشر فكرهُ، وكان يُقابل الحجة بالحجة، والبرهان بالبرهان والفكرة بالفكرة، كما هو في حال ابن الراوندي الذي كاد في بعض مؤلفاته أن يمس الأصول الثلاثة للإسلام " التوحيد والنبوة والمعاد"، ولم يكن يعاقِب أو يسخط على من يخالفهُ من هؤلاء كما هو الحال بالنسبة لبلاد فارس وبعض دول الغرب آنذاك.

وبهذه الطريقة أسس الإمام جعفر بن محمدٍ الصادق مدرسة المذهب الكبرى التي فرضت نفسها بقوة منطقها وحججها، لا بقمع الفكر الآخر والسيطرة عليه، ليؤسس لفكرة أن لا حصر للفكرِ، وأن البحث وتحصيل العلم يجب أن لا يُحتكرَ في فئةٍ أو شخوصٍ أو جهات، بل هو أمرٌ مطلوبٌ من الجميع ممارسته قبل أن يكون من ضمن حقوقهم، حتى مع وجودِ الإمام المعصوم.(٣)
 
فيما سبق، مررنا مرورًا سريعاً على لمحات من بعضِ مواقف المعصومين، نلاحظُ فيها اهتمامَ المعصومين في إصلاح المجتمع والأمة، في مختلفِ الجوانب، ليرسلوا لنا نموذجًا عن المنهج المثالي للعملِ في هذا الإصلاح، لذلكَ أقولُ أنه لا بدَ لنا من إيجاد مشروعٍ يستندُ على منهج ونموذج المعصومين، ليكملَ مسيرتهم ويُفَعِّلَ خطتهم في الإصلاح، فلا بد من وجود الخطة العلمية، والثقافية، والاقتصادية، والدينية، والسياسية، ووووو ...، والخطوةُ الأولى في تفعيل مشروعهم هو الإطلاع على سيرتهم وقراءتها قراءةً موضوعيةً، وفهم دورهم الحقيقي في إصلاحِ المجتمع، وفي الهامش أسماء لثلاث كتبٍ، استفدتُ منها في كتابة هذا المقال، ومن المهم والمفيد جدًا الإطلاع عليهم وقراءتهم.(٤)

20 يونيه 2014

_____________________________
(١) يمكنُ للقارئ العزيز متابعة كتاب فاجعة الطف، لمؤلفه السيد محسن الحكيم، لتوضيح الفكرة المشار لها.
(٢) الوراق: هم جماعة يعملون على نسخ الكتب يدوياً بعد تأليفها من قبل العلماء، أي كعملِ المطبعة في عصرنا هذا.
(٣)يمكنُ للقارئ العزيز متابعة كتاب "الإمام الصادق في نظر علماء الغرب" لتوضيح الفكرة المشار لها.
(٤) يمكنُ للقارئ الاطلاع على كتاب "الحياة السياسية للإمام الرضا" لمؤلفه السيد جعفر مرتضى العاملي

No comments:

Post a Comment