Friday, June 27, 2014

عندما تتحول الفكرة إلى واقع // ز.كاظم



جاءني يومًا أخٌ عماني بفكرة إصدار نشرة تخاطب الجالية الإسلامية في المنطقة التي كنّا ندرس فيها.. كانت الفكرة أن تكون هذه النشرة باللغتين: العربية والإنجليزية إذ كانت الجالية الإسلامية خليطًا من العرب والإيرانيين والهنود والأفغان وغيرهم. كنّا حينها في بداية دراستنا الجامعية مطلع عقد التسعينات من القرن المنصرم.. أبدى العماني استعداده الكامل في توفير مواد النشرة من مقالات ومعلومات ومواضيع، والمطلوب مني أن أقوم بخط مواضيع اللغة العربية إذ لم تكن برامج الكمبيوتر في اللغة العربية منتشرة حينها كما هي الآن. وافقتُ على الفكرة وبادرنا على عجل بالعمل عليها. أطلقنا على النشرة اسم نشرة "الانتظار" تيمنًا بالإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف آملين أن يكون انتظارنا انتظارٌ إيجابي يُعدّنا ويُهيؤنا لمقدمه الشريف.
 
بدأنا العمل على النشرة بهمة ونشاط، وبعد الانتهاء من إخراج النشرة جاءتنا فكرة طرح النشرة على رئيس المركز الإسلامي -وهو رجل ذو وقار نكنّ له كل الاحترام والتقدير- أملًا في الأخذ بإرشاداته وتوجيهاته. جئنا إليه يملؤنا حماس الدنيا كله ووضعنا النشرة بين يديه إذ لم نكن لنطرح الفكرة فقط بل أردنا تقديم النشرة جاهزة لئلا يكون هناك بعض الشك في القدرة على إخراجها.. جلسنا معه، وقدمنا النشرة له واعطيناه نبذة عن فكرتها وأهدافها.. قال لنا: لا فائدة.. لا تتعبوا أنفسكم ولا تضيعوا أوقاتكم.. نزلت كلماته كالصاعقة علينا وطفقنا ننظر إليه ولا نكاد نبصر.. واصل حديثه: انظروا حواليكم في المركز.. لاحظوا أرشيف المجلات والصحف والنشرات.. كم منها يُقرأ؟ المشكلة ليست في نُدرة مواد القراءة.. المشكلة في عدم وجود حافز عند الناس ليقرؤوا..
 
شعرنا بالإحباط الشديد واظلمّت الدنيا في أعيننا إذ كان لوقع كلماته أقسى الأثر علينا.. لم يرق لنا كلامه، وعلى بوابة المركز ونحن خارجين حادثنا بعضنا وقررنا المضي قدمًا في إخراج النشرة.. وهكذا كان.. أصدرنا أول عدد من النشرة في شهر رمضان الكريم أملًا في حلول بركة الشهر الفضيل على هذا العمل.. كانت نشرة بسيطة جدًا.. أربع صفحات باللغة العربية يقابلها أربع صفحات باللغة الإنجليزية.. أتذكر أحد مواضيعها عن استشهاد السيد عباس الموسوي رحمه الله إذ كان استشهاده قبل شهر واحد من إصدار النشرة.. حوت النشرة على بعض المواضيع عن شهر رمضان مع بعض المعلومات.. أردناها أن تكون نشرة خفيفة يسهل قراءتها.. صدرت بخط اليد باللغة العربية وبخط الكمبيوتر (ماكنتوش) باللغة الإنجليزية.. كان لون غلافها أحمرًا (لا أعلم لماذا اخترنا هذا اللون إذ لم يكن جميلًا، وكان عليها شعار اسم النشرة بشكل بهيّ، ورسم لصورة المسجد الأقصى).
 
على عكس تنبؤ رئيس المركز، استقبل أفراد المركز النشرة بكل سعادة.. الكثير أثنى على المجلة وعلى هذا العمل الرائع، مما أعطانا شحنة ودفعة على مواصلة الدرب في هذا العمل البسيط جدًا والذي كان كبيرًا وعظيمًا في قلوبنا.. صدر العدد الثاني والثالث..  انضم الى طاقم النشرة شبابٌ أكثر وأصبح لها كادر خاص يشرف على مختلف المسؤوليات كالطباعة على الكمبيوتر، الإخراج الفني، الطباعة، جمع المقالات، .. إلخ. كان الكادر يسهر الليالي في الطباعة والإخراج وكانوا يقضون الساعات الطوال حتى الفجر في محل الطباعة لإخراج المجلة بثوب جميل وحلة بهية خصوصًا أن تقنية الإخراج لم تكن سهلة كما هي الآن..
 
هناك بعض الإفادات التي تعلمتها من هذا العمل أطرحها على شكل نقاط:

1. تحقيق الأفكار ممكن جدًا متى ما توافرت الإرادة والإصرار والسعي الحثيث.. أتفهم الآن موقف رئيس المركز، لكني مع احترامي له أختلف معه.. إذ أن الفكرة لم تكن فقط للحث على القراءة، بل إن لهذا العمل آثار وايجابيات كثيرة جدًا أطرحها في النقاط التالية.

2. قدّم هذا العمل للقائمين عليه الكثير من الخبرة في مجال الإدارة وطوّر من قدراتهم الذاتية.. إذ تشكّل فريقٌ وقُسِّمت المسؤوليات، وحُددت المواعيد، فكانت هناك مواعيد لجهوزية المقالات، ولطباعة النشرة وليوم النشر.. ووضعت آلية لمتابعة أداء العاملين.. أشرف على عمل النشرة طاقم كامل من العاملين لكل فرد منه مسؤوليته المحددة ومع ذلك كانوا يتعاونون مع بعضهم البعض إذا ما دعت الحاجة.
 
3. من إيجابيات هذا العمل أنه شجع الكثيرين على الكتابة وطرح أفكارهم في مقالاتٍ يتم نشرها على صفحات النشرة.. كانت المواضيع بدايةً يتم نقلها من كتب أو مجلات، لكن بعد ذلك تطوّر الأمر وشارك الكثير من الجالية الإسلامية في المنطقة في كتابة المقالات أو الأشعار، ثم تطورّت النشرة بعد أن ذاع صيتها فكانت تستقبل المقالات من كتّابٍ في مدن ومناطق أخرى.. بل تشجع البعض وقام بالبدء في الكتابة وهو ليس بالأمر السهل لمَن لم يكن متعودًا على الكتابة، إلا أن وجود النشرة ساهم في تشجعيهم و دفعهم للكتابة.. فالإحساس بأن هذه النشرة صوتُ الكاتب للمجتمع الذي يعيش فيه ولّد شعورًا بالمسؤولية عند الكاتب في أن يخاطب مجتمعه بعباراته المكتوبة ويساهم في طرح أفكاره على صفحاتها.

4. أعطى هذا العمل حسًا بالمسؤولية عند كادر النشرة وهذا الإحساس تعاظم بالتفاعل مع أفراد الجالية خصوصًا عندما يسألون عن موعد إصدار النشرة ولماذا تأخرت، وما هي الأسباب، وكم وصل عدد توزيع النشرات ووو.. كانت روح المسؤولية تجعل الكادر جليس الحاسوب أو المطبعة لساعاتٍ طوالٍ على التزامًا بأداء مسؤوليته الملقاة على عاتقه.

5. ذاع صيت النشرة حتى قامت الكثير من المراكز الإسلامية بالاشتراك فيها.. كما أن مؤسسة عريقة لها حضور واسع بعثت بمسؤوليها ليتم ضم النشرة إلى الأعمال التي تقوم بها.. طبعًا تم رفض الفكرة إذ كانت النشرة تمثل هوية.. انتماء. ولم يكن ليُسمح أن يتم مصادرتها تحت كيان أو مؤسسة أخرى.. لا أناقش فكرة صحة هذا الموقف من خطئه، إلا أن الجدير بالذكر أن هذا العمل البسيط ولّد عند العاملين شعورًا بالانتماء لهذا العمل.
 
6. أظهر هذا العمل طاقات وكفاءات كانت مدفونة أو غير ظاهرة تمثلت في حسن الإدارة، حسن التعامل، الإصرار، الثبات، القوة في تحمل الضغوط، تنظيم الوقت والعمل، رفع مستوى حس المسؤولية، وغيرها من الأمور المخبئة في العاملين والقارئين والمتابعين.
 
7. أعطى هذا العمل شعورًا بالفخر لأفراد الجالية، إذ كانوا يشعرون أن هذا العمل وليدهم.. كانوا يساهمون في المساعدة ماديًا، لكن العامل المؤثر تفاعلهم الإيجابي الذي كان بمثابة الوقود في قلوب الكادر العامل.. كان احتفاؤهم بالنشرة وانتقاداتهم وتشجيعهم مع المساهمة في الكتابة من أفضل الخدمات التي قدموها لهذا العمل.
 
8. ما كان لله ينمو.. كان هذا الشعار هو الذي يدفع العاملين للتخلي عن الأنانية وحب الذات والظهور كلما أراد الشيطان الوسوسة في صدورهم. هذا الشعار هو الذي جعل الكادر يحاذر من أن يشوب عمله نوع من الرياء والعُجب.
 
للأسف الشديد لم يقدّر لهذا العمل أن يستمر مع أنه تواصل لعدة سنوات.. توقفت النشرة بعد سنين من العطاء.. كان لرحيل الكثير من العاملين بعد انتهاء فترة دراستهم أكبر الأثر في توقف النشرة، وكذلك عدم العمل على تهيئة كوادر جديدة ساهم أيضًا في القضاء على هذا المشروع الجميل.. من المهم جدًا أن يفكر القائمون على أي مشروع في كيفية استمرار ضخ الحياة فيه ليظل مثمرًا معطاءً.. الكثير من المشاريع البناءة الجميلة تموت بعد فترة وجيزة أو حتى طويلة.. والنظر الجدي إلى الأسباب التي تؤدي إلى توقف هذه المشاريع هو الخطوة الأولى التي يمكن الانطلاق منها في العمل جديًا على إزالة تلك الأسباب لتدوم وتستمر مثل هذه المشاريع المفيدة.
 
23 يونيه 2014

No comments:

Post a Comment