بسم الله الرحمن الرحيم
دوج مورس أحد المهندسين المخضرمين في مصنعنا تعدى عمره الستين عامًا لكنه لا يزال في أوج نشاطه، فتراه منذ الصباح الباكر في المصنع يعمل بنشاط أكثر حيوية من شاب في العشرين من عمره.. ويواصل نشاطه طوال اليوم ويخرج من العمل متأخرًا تقريبًا في كل يوم. يشرب القهوة طوال اليوم ويدخن كثيرًا ولا يأكل غداءً إلا قطعتين من الحلوى.. في الأسبوع الماضي غاب فجأة فعرفتُ بعدها أنه سافر إلى ولاية ثانية بسبب أن ولده الأكبر يخضع لعملية سرطان في القولون. ولده لا يدخن وعمره في حوالي الأربعين. عندما رجع من زيارته استعلمتُ منه عن صحة ابنه فلم يكن الجواب مطمئنًا مع نجاح العملية إلا أن السرطان وصل إلى أجزاء في جسمه تعدت القولون ولم يستطع الطبيب المعالج أن يواصل في استئصال السرطان من تلك الأجزاء إذ كانت الخطورة كبيرة على حياته. كانت نبرة دوج حزينة ونفسيته مضطربة، إلا أنه بعد عدة أيام عاود نشاطه وحيويته مرة أخرى.
المفارقة في هذه الحادثة هو الابتلاء الذي أبتلي به الابن ما المفترض به أن يُصاب به الأب نتيجة تدخينه وعدم اعتنائه الجيد بأكله وصحته، ولله في خلقه شؤون. إلا أن ابتلاء الأب بمصيبة ابنه ليست بالهينة أيضًا.
يعجز الإنسان أن يفسر الكثير من الابتلاءات التي تصيبه في نفسه وفي ماله وعياله مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من الأمور الضارة التي يمارسها الإنسان لها تأثير مباشر على حيازة الإنسان لهذه الابتلاءات، إلا أن الابتلاءات بأشكالها المختلفة تظل دائمًا مرافقة ومصاحبة للإنسان. بعد أسبوع واحد سيأتي صديق عزيز لدي جمعتني إياه صداقة أيام الجامعة ولا تزال مستمرة حتى هذا اليوم. قد أبتلي هذا الصديق -وهو فلسطيني- بزوجة أمريكية -مسلمة- أنجب منها خمسة أطفال وعاشت معه ردحًا من الزمان في فلسطين، إلا أنه في نهاية الأمر هربت بالأطفال ورجعت لأمريكا لتعيش علاقة غير شرعية مع رجل أجنبي ولترجع لدينها السابق وتدخل الأطفال في المسيحية بعد أن كانوا مسلمين، وقد قامت بزرع الكراهية في نفوس الأطفال على أبيهم..
دارت الأيام وطلقها هذا الفلسطيني وحكمت المحكمة برعاية الأطفال عند هذه الأم، فتزوجت هذا الأجنبي.. لتدور عجلة الزمن ويأتي صديقي الأسبوع القادم -لأنها تطلقت من زوجها الأجنبي الذي كان يُسيء معاملتها- ليرى كيف يصنع مع أولاده الذين بلغ أكبرهم عمر الرشد، في محاولة من محاولاته اليائسة في ارجاع أولاده إلى حضن الإسلام. ومع أن هذا الصديق قد تزوج من ابنة عمه من فلسطين وأنجب منها أطفال، إلا أنه لا يزال يعيش الابتلاء مع أطفاله من مطلقته الأمريكية ويحاول أن يبني جسورًا طالما هدمتها مطلقته..
وهكذا هي حياة الإنسان ملئى بالابتلاءات والامتحانات فبين كل بسمة دمعة وغصة، وبين كل عدل جور وظلم، وبين كل سعادة حزن وألم، ومن هنا بعض النقاط السريعة:
1) الإيمان بوجود قوة غيبية -الله- مهم جدًا في فهم معادلة الحياة. هذه القوة الغيبية هي التي يلجأ إليها الإنسان عند الابتلاء فهي ركن يستجير به الإنسان عندما تصدمه الابتلاءات والمِحن.
2) تزداد فرصة فهم العلاقة بين الخالق والإنسان حينما يمر بالابتلاءات لتفتح له بابًا قد تجعله أكثر قربًا من خالقه، وأكثر التصاقًا به.. ومن الضروري أن يقوم الإنسان باستثمار هذه الفرصة إيجابيًا في تقوية إيمانه ويقينه عوضًا عن الاستسلام واليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى.
3) من المهم جدًا أن تُستثمر هذه الفرصة -في القرب من الله- في إعادة التفكير فيما مضى من عمر الإنسان وفيما بقي منه، ووضع أولوياته بشكل صحيح.. فالإنسان بطبعه يلتصق التصاقًا كبيرًا بالحياة وقلما يفكر في مآله وخاتمته.. فاستثمار الفرصة يكون بإعداد برنامج يزرع به آخرته التي أهملها طوال حياته في الغفلة والنسيان والجري وراء الدنيا ومتطلباتها ورغباتها، وأن لا يكون مصداقًا للآية الكريمة "وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ".. وهذه حالة متكررة في الإنسان أنه بمجرد أن يزول البلاء فإنه يعود إلى تفكيره وسلوكه القديم..
4) على الإنسان أن لا تشغله ابتلاءاته عن ابتلاءات الآخرين، وأن يشكر ربه على ما ابتلاه، فبالنظر الى ابتلاءات الآخرين -وابتلاءات الناس جمّة- فإنه بذلك يصبّر نفسه على تحمل البلاء ويشكر ربه أنه لم يبتلي بما ابتلي به كثير من الناس.
5) أن يستشعر آلام الآخرين ويراعيهم في ابتلاءاتهم كما يرجو أن يراعيه الناس حين البلاء. هناك حالة سقيمة من التشفي والتذاكي حينما يمر الآخرون بالبلاء وإن غُلّفت بهالة من المنطق، فكثيرًا ما تسمع لو فعل كذلك لما أُصيب بكذا.. هذه الحالة السقيمة بالرغم من أنها تشير إلى نفسية غير سليمة اتجاه الآخرين، إلا أنها تكشف عن فقدان الرحمة والشفقة من قلب الإنسان لتجعل هذا القلب قاسيًا، ناهيك أن تلك الحالة قد تجعلك معرضًا للابتلاء. فلنتراحم مع بعضنا البعض فذلك أطهر للقلوب وأنقى.
الابتلاءات محطات يمر بها الإنسان لا محالة وهي قاسية وشديدة، لكننا نستطيع أن نقلل من آثارها وتداعياتها بل ونستطيع أن نستفيد منها إيجابيًا متى ما تم التعامل معها وفق تفكير سليم ونية خالصة وعمل متقن. إن بُليت بابتلاء المرض، فقُم بكل السبل الطبيعية من العلاج ولا تنسى الدعاء.. وإن بُليت بابتلاء الفقر، فاعمل على رفع ذلك البلاء بالعمل ولا تنسى الدعاء.. وإن بُليت بابتلاء الغربة، فاعمل على خلق أجواء القربى بتعزيز التواصل ولا تنسى الدعاء..
22 نوفمبر 2014
No comments:
Post a Comment