Friday, November 21, 2014

الدين والدّنيا في محكمة العقل // أبو مقداد

 
 
قبل أن يُبعث نبيُّ الإسلامِ محمد صلى الله عليه وآله، لم يكُن هناكَ إسلام يُحتكمُ إليه ويمثّل القانون الخاص الذي يكون به المرءُ صالحًا أو فاسدًا.. إنما كانت هناك مجموعة أديان نعتبرها اليومَ كُفرًا، أو شبهَ كفر، كاليهودية التي هي من أشد أعدائنا، كانت هناك مجموعة قيم ومبادئ وأفكار تُسيّرُ أمور الحياة..
والإسلام جاء بعد تمهيد هذه الأديان والأفكار والقيم ليهذب وينظم سلوك البشرية ويوجهه لجادة الصواب، وهو بمعنى آخر منظومة قيمٍ ومبادئٍ وأخلاقٍ وفكر مهذِّبة وراشِدة، وتمثل شمال البوصلة الدائم. الإسلام ليس مجرد أحكامٍ شرعيةٍ وأصول فقهية تدار بقوانينها الحياة، وليس مجرد عقائد نرتبط بها ونتمسك بها ونقضي العمر في محاولة إثباتها والدفاع عنها، إنما هو مشروعٌ أيديولوجي متكامل، وما العقائدُ إلا أبوابٌ ووسائل وسُبل توصلنا لحقيقة الإسلام، ومن الخطأ الفادح أن نتمسك بالقشور حينَ تكونُ في اللبُّ كل القيمة.
وهذا المشروع الضخم لا بد له أن يكون مشروعًا منطقيًا يتمكن عقل الإنسان من فهمه وتحليله والتفاعل معه، حيث أن الإنسان هو المُنفّذ له.
 
يولد الإنسان لا يعرف من عقائده شيئًا، لا يفهم الإسلام ولا المسيحية، لا يعرف الفرق بين السنة والشيعة، لا يعرف من أي أتى أو كيف أتى أو من أوجده، فيكبرُ معهُ فطرتهُ التي وُلِدَ عليها، وبيئته التي يتربى فيها. ولن يكونَ هذا الطفل سوى نتاجًا من تأثيرات بيئتهِ عليه، فمَن يتعلّم في صغره بأن حلق شعر الرأس ضرورة إنسانية، وتكون بيئتهُ ومجتمعه وأسرته تمارس ذات السلوك، فسيلتزم به وسيصبح عقيدة وثقافة بالنسبة له، سيعلمها أبناءه بالتأكيد، فهذا ما وجد عليه آباءه الأولين. مَن يولد في غرفة، ويُسجن في حدودها طوال عمره والغرفة بها أثاث ملونٌ بكل الألوان عدا اللون الأحمر، ويُمنع على هذا الطفل أن يرى أي شيء أحمرٍ، فمن الطبيعي بعد سنوات إن لم يرَ شيئًا أحمرًا سيظل عاجزًا عن فهم كيف يكون شكل اللون هذا وكيف يُرى.
كذلك نتحدث على مستوىً أعمق، نحن نُولدُ مسلمين.. شيعة.. هذه هي بيئتنا، نتربى في القرى والأرياف بذات الصفة المجتمعية الشيعية وذات المفاهيم، نكبر على قاعدة أساسية جدًا هي أن التشيع هو الطريق الصحيح الخالص وأن الشيعة هم الفرقة الناجية التي قصدها رسول الله في حديثه وأننا شعب الله المختار، وحتى في الانتماءات الداخلية في المذهب نظن أن انتماءنا هو الطريق الذي لا بد لنا أن نسلكه ليؤدي بنا إلى حيثُ الحق والرشاد.. وكلٌّ يغنّي على ليلاه..
لست هنا بصدد التشكيك في العقيدة.. ولا في محاولة إثبات صحتها من عدمه؛ فهذا بحثٌ آخر..
إنما هنا أود الإشارة لضرورة فهم المعتقدات.. الانتماءات.. الموروثات.. العادات.. التقاليد.. الظواهر.. الممارسات.. السلوكيات.. الأطباع..
لماذا أنت مسلم؟ ولماذا أنت شيعي؟ ولماذا تؤمن بالغيب؟ ولماذا تصلي؟ ولماذا ولماذا..
إن قلتَ هذا ما ورثناه من الجدود، أو هذا ما أوصى به المعصومون وأمر به الله، فهذا ليس هو الرّد الشافي، لأنك ستواجه أسئلة أشد.. لذلك فالمرجو منك أن تبحث في أصل عقيدتك، والسبب المقنع ورائها، أن تقرأ، تتفكر، تتأمل، تسأل، لا أن تأخذها جاهزة من ورّثها الأباء فقط!
 
العقل هو فيصل التمييز بين الإنسان والحيوان، طاقةٌ جبّارة أودعها الله في الإنسان، آلة التطور العبقرية التي لا تتوقف، مكّنته من التحول من عصرٍ حجريٍّ لا يجد ما يكسو عورته به، لعصرٍ سريعٍ جدًا، نووي، تكنلوجي، فضائي، لا حدودَ لتقنياته. عقل الإنسان هو الذي اكتشفها واخترعها وطوّر الكون..
فالكمبيوتر لم يُخترع بمعجزةٍ إلهية، ونواة الذرّات لم تعرفها البشرية عن طريق حلمٍ في منامِ رجلٍ ما..
إنه عقلُ الإنسان يا سادة..
 
والله إذ رزقناه هذه الآلة العظيمة وكرّمنا بها، كان حريٌّ بنا أن نسثمر هذا التكريم وأن يبقى معمل الفكر هذا متوقدًا لا يخفت، مابقت الحياة..
 
قد تختلف إمكانيات عقل عن عقل، وهذا أمرٌ طبيعي، وبالطبع لن يصل عقل الإنسان لكماله مهما سعى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلًا"، ولكن من جهةٍ أخرى قال القرآن الناطق، "أتحسب أنك جرمٌ صغير وفيك انطوى العالمُ الأكبرُ" وهذا العقل الجبار الذي كرم اللهُ الإنسانَ به لا يمكن أن يطلب منه أن يؤمنَ بشيء خلاف المنطق والعقلانية، لذلك كان الدينُ الإسلامي، أو المشروع الإسلامي المراد من الإنسان تنفيذهُ هو قمة المنطقية والتعقّل، وبسبب محدودية عقل الإنسان وبعض العوائق التي تمنعه من بلوغ العلم فإنه يعجز من أن يصل لكماله. كما أن الله لم يكشف للإنسان كل شيء وجعل لمملكته بعض الأسرار التي لم يكشفها للبشرية، وهذا أبدًا لا يتعارض مع عقلانية المشروع الإسلامي.
 
ما أقولهُ هنا، أنه لو فكّر الإنسان في أي مسألة إسلامية، عقائدية أو قيمية أو أخلاقية أو ما شابه، فإنهُ سيصل لنقطةٍ من نقطتين، إما أن يصل لفلسفتها ويكشف ماهيتها، وحكمتها المنطقية، أو أنه سيصل لـ لا جواب، لنهاية طريقٍ بلا نهاية، لـ لا شيء، فعليه أن يعيد ويكرر البحث والتفكّر، ويبحث عن طرقٍ أخرى، لكن حين يصل لإجابةٍ تناقض وتعاكس المنطق فبالتأكيد بأن عقله انحرف به لمسارٍ خاطئٍ تمامًا، وعليه تصحيح مسار عقله فورًا..
 
في الإسلام نحن نؤمن بالكثير من الغيبيات، وجميع هذه الغيبيات كثير منا أُخبر بها من بيئته والمجتمع، لم تكن يومًا نتيجة بحث ودراسة ومحل تفكر وتأمل. حين كنا صغارًا، نسأل الآباء، من الله؟ ماهو الله؟ كيف الله؟ أين الله؟ لماذا لا نراه؟ لم تكن هناك إجابات، فينشأ الجيل على أن يؤمن بالغيب لأنه غيب فقط، والله هو نورٌ خلق السماوات والأرض وكل شيء، يقول للشيء كن فيكون، وبعض الأجولة السطحية التي تولّد أسئلة أكثر.. وهكذا -بتصوري- تغيب روح العبودية الحقّه، وبنفس النهج، يُعطّل عمل المشروع السماوي الحقيقي، ويُفرَّغ من محتواه، بالرغم من أن حتى قضية وجود الخالق الغيبية، يمكن الاستدلال عليها وإثباتها وبرهنتها عقليًا ومنطقيًا كما كتب الأستاذ العلّامة السيد حسن مكي العاملي في كتابه الرائع "بداية المعرفة"*.
 
بهذه المنهجية تكون حتى عبادة الله عن وعي وعقلانية واختيار، الله ربُّ الكون والأرباب، رغمًا عن كل شيء، ولكن نحن بهذه الطريقة اخترناه إلهً ربًّا أحدًا فردًا صمدًا، اخترناه عن قناعةٍ بأنه وحدهُ لا شريكَ لهُ بالملك، عقلنا وكل وجداننا يدلنا على أنه الربّ الذي لا خالق سواه، ولا صانع لهذا الكون غيره، وأن لا يكون هذا الإيمان مجرد إرثٍ أو نتيجة ولادتنا في مجتمع مسلم فقط!
 
ويجري الأمر على كل شيء في حياتنا، نحن من يجب علينا أن نختار أين نكون وكيف نكون، حتى في قضية ولائنا للمعصومين، فنحن حين نؤمن بالله بعقل ووعي، سنؤمن بنبيه بذات العقل والوعي، ونؤمن بالإمامة بمثل الوعي والعقل، وبإيماننا بهم سنثق بكل ما يصدر منهم ونسلم لهم تسليمًا. ولكن مطلوبٌ منا أيضًا أن نسعى للكمال من خلالهم وأن نجعل ثقتنا بما يصدر منهم طريق سعيٍ يوصلنا لمعرفة الله جل وعلا فيكون اختيارنا للتسليم لهم هو اختيارٌ عقلاني ومنطقي جدًا.
 
وخصوصًا في زمن الفتنة الكبير الذي نعيشه اليوم، يختلط الحق بالباطل، ويختلط الصالح بالفاسد لا بد من ضرورة تفعيل دور هذا العقل في كل ما يطرأ عليه من أحداثٍ وأفكار ونظريات. ولا بد من أن يُحصّن الإنسان نفسهُ جيدًا من الناحية العلمية والفكرية والبحثية والثقافية حتى يتمكن من تمييز الحب الصالح من الفاسد بين كل ما يطرأ على عقله.. ولا يمكنُ للإنسان أن يسحق نفسهُ وعقله أمام أي فكرةٍ أو عقلٍ أو شخصيةٍ أو معتقَدٍ أو جهةٍ أو انتماءٍ أو أي شيء لا يمكنه أن يلغي وجودَه لشيء آخر وإن كان يفوقهُ عظمة، فالله خلقنا وكرمنا بالعقل، ليكون لنا وجود، لا لكي نحيا عدمًا. وأعجبُ كل العجب ممن يتفنن في إلغاء نفسه، كيف يمكنه احترام وجود الآخر، لذلك سنجد أن من يلغي نفسه وعقله لحساب شيء ما، سيلغي بالطبع كل من لم يشاركه الإلغاء!
 
ختاما أقول من جديد.. العقل هو تكريم الله بنا.. فلنشكره بالوعي.
 
 
22 نوفمبر 2014
 
______________________________________________
هامش:
*كتاب بداية المعرفة بصيغة pdf
 

No comments:

Post a Comment