Friday, February 13, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (16) - "مناقشات وردود (7) / الديالكتيك، سعةً وضيقًا" // محمد علي العلوي

 
 
 
ينظرُ العاقِل إلى (الفكرة)، فيبدأ بتَفَحُّصِها تفحُّصًا علميًّا موضوعيًّا؛ لغاية واحدة، هي: الكشف عن التناقضات التي تأحملها، ثم التغلُّب عليها، ومن بعد ذلك يأتي التفحُّص ثانيةً، وهكذا تستمر آلية الجدل طلبًا للحقيقة.
 
هذا ما كان عليه فلاسفة اليونان قبل ميلاد السيد المسيح (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، وفي عصر التنوير برز هيجل بنظرية التطور المستمر من خلال هذا النوع من الديالكتيك، فالواقع الخارجي عند هيجل مظهر وشكل للفكرة.
 
جاء كارل ماركس مصحِّحًا للديالكتيك الهيجلي - كما يرى -، وذلك بقلب المعادلة، فهو يقول بأنَّ الفكرة ليست إلَّا نتاجًا طبيعيًّا للواقع الخارجي، فالخارج هو الذي يصوغ الفكرة، وليس العكس.
 
وعلى أيَّة حال، فإنَّ النظرة العالمية للحزب الشيوعي هي المادِّية الديالكتيكية، وبفهمها نفهم بنيان الشيوعيَّة بشكل أكثر دِقَّة وموضوعيَّة، وقد لا نجد ما هو أكثر جودةً من ملخص جوزيف ستالين لكتاب فلاديمير لينين (المادية والنقد التجريبي)، وفيه يشير بوضوح تام لعمق الرؤية المادية، فيقول:
 
"على العكس من الميتافيزيق، لا يَعتَبِر الديالكتيك الطبيعةَ تراكُمًا عرَضيًّا مِنَ الأشياء، أو الظواهر، لا ترتبط إحداها بالأخرى، أو منعزلة ومستقلة إحداها عن الاخرى، بل يعتبرها كيانًا كُلِّيًّا مرتبِطًا ارتباطًا لا ينفصم، تكون فيه الأشياء والظواهر مرتبِطَةً ارتباطًا عُضويًّا، وتَعتَمِد إحداها على الأخرى، وتُقَرِّرُ إحداها الأخرى.
 
وعليه، فإن الأسلوب الديالكتيكي يَعتَبِرُ إنَّه لا يمكن فهم أيَّة ظاهرة طبيعية إذا أُخِذَتْ بذاتِها، مُنعَزِلةً عن الظواهِر المحيطة بِها، إلى حَدِّ إنَّ أيَّ ظاهرة في أيِّ مجال من الطبيعة قد تصبِحُ عديِمَةَ المعنى لنا، إذا لم تُدرس بالترابط مع الظروف المحيطة بها، بل بالإنفصال عنها، وإنَّه على العكس من ذلك، يُمكِنُ فهم أيَّ ظاهرة وتوضيحها، إذا دُرِسَتْ في ارتباطها الذي لا تنفصِم عُراه مع الظواهر المحيطة بها، كظاهرة تُقَرِّرُها الظروف والظواهر المحيطة بها".
 
ثم يقول:
"على العكس من الميتافيزيق، يَعتَبِرُ الديالكتيك إنَّ الطبيعة ليست في حالة سكون وعدم حركة وجمود وعدم تغيُّر، بل في حالة حركة دائِمَة وتغيُّر مستمر، حالةِ تجدُّدٍ وتطور مُستمِرَّين، حيثُ ينشأ شيءٌ ما جديد ومتطور على الدوام وشيءٌ متفسِّخٌ وزائِلٌ على الدوام.
 
وعليه فإنَّ الأسلوب الديالكتيكي يتطلب دِراسَة الظواهر ليس فقط من وجهة نظر علاقاتها المتبادلة واعتماد بعضها على البعض، بل كذلك من وجهة نظر حركتها وتغيُّرها وتطوُّرها، من وجهة نظر نشوئِها وزوالِها".
 
هنا، أمران:
الأول: إنَّ الفكرة الماركسيَّة في مبدأها النظري، استنباطًا (ديالكتيكيًّا) من الديالكتيك الهيجلي، وهذا في حَدِّ ذاته مُثبِتًا لمفهوم الجدل عند هيجل الذي لا ينفي المادية الديالكتيكية، ولكنَّه لا يحصر الديالكتيك فيها، وليس من دليل على الاستنباط الديالكتيكي لماركس أوضح من انتقاله إلى الشيوعيَّة من خلال النقض على هيجل، ولا يقولُ نفسُ ماركس بماديَّة الفكرة، وبالتالي فهو نقض ماركسي على النظرية الماركسية.
 
الثاني: لو سلَّمنا بما تذهب إليه الشيوعيَّة، من إنَّ الفكرة صنيعة الخارج المادي، فنفسُ هذه الصنيعة، أمرٌ مجرد وحركة غير محسوسة، فلو فسَّرنا الحركة الماديَّة بأنَّها الترابط العضوي بين الشيء والآخر، وهو - كما أرى - حقُّ لا إشكال فيه، فإنَّنا لا نتمكن من سحب نفس التفسير المادِّي على القوة المُحَرِّكةَ لذلك الديالكتيك.
 
يقول إنجلز:
"الطبيعةُ كُلُّها، مِنْ أصغَرِ الأشياء إلى أكبرها، مِنْ حَبَّة الرمل إلى الشمس، مِنْ البروتيستا إلى الإنسان، هي في حالة دائمة من النشوء والزوال، في حالة تغيُّر متواصل، في حالة حركة وتغيُّر لا يتوقفان." (إنجلز، ديالكتيك الطبيعة).
 
لا يمكن لهذه الحركة التي يُقِرُّها المُنظِّرُ الشيوعيُّ أن تكون مادِّية من حيث هي هي، فالتغيُّر والزوال، أثرٌ ومظهرٌ لها، فهي حالة إثباتية، لثبوت مُقَدِّر لا يتخلَّف، ولذلك اعتمده الشيوعيُّ أساسًا في نظريته المادِّية، غير إنَّه أغفل تفسيرَ الحركة بما هي حركة، لا بما هي مظهر لها تُدْرِكُهُ الحاسَّة.
 
هذا في أصل النظريَّة الشيوعيَّة، وأمَّا في ما ترتب عليها، فأقول:
اتضح بالنص، إنَّ الشيوعيَّة تدفعُ في اتِّجاه ثورة البروليتاريا، وتؤسِّس لدكتاتوريتها تأسيسًا أدبيًّا، نقرأ فيه التالي:
 
أولًا: يرى الشيوعيُّ ضعف الشعوب عن إدارك معنى الثورة وضرورة تحريكها بقوة كمقدمة وجودية في السلام البشري، ولذلك فإنَّ الطريق منحصِرٌ في الدفع الثقافي والتعبوي في اتجاهها الثورة وبكُلِّ الطرق والسبل والوسائل، فالغاية في نظره، تُبَرِّرُ الوسيلة.
والخلاصة، إنَّه يرى تخلُّفَ الشعوب عن فهم المعادلة، ولذلك جعل نفسه وصِيًّا على العقول والأفهام - كما أفهم من النص التالي -:
 
"وباختصار، يُسانِد الشيوعيون, في كُلِّ مكان, كُلَّ حركة ثورية ضِدَّ الأوضاع المجتمعية والسياسية القائمة.
وفي كُلِّ هذه الحركات يُبرزون مسألة المُلكية, مهما كانت درجة تطور الشكل الذي تتَّخذه, المسألة الأساسية للحركة.
وأخيرًا، يعمل الشيوعيون, في كُلِّ مكان, على إقامة العلاقات, و على تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم, ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلاّ بإسقاط النظام المجتمعي القائم, بالعُنف.
فلترتعد الطبقات السائدة خوفًا من ثورة شيوعية، فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم، وأمامهم عالمًا يكسِبُونه." (راجع: بيان الحزب الشيوعيِّ، الفصل الرابع).
 
ثانيًا: يذهب الشيوعيُّ إلى حصر التخلص من الباطل - كما يراه - بتعريضه للمصادمة المستمرة مع الحقِّ - الذي يراه -، وبالتَّالي، فإنَّ الديالكتيك الماركسي خارجيُّ السمَة.
هذا، وقد قرَّر في أصل النظرية جوهرية الديالكتيك، فقال بإنَّ كُلَّ شيءٍ يحمِلُ ضِدَّه معه، فهو ليس في حاجة للاصطدام بالضدِّ الخارجي؛ حيثُ إنَّ الخلق الجديد متحقِّقُ لا محاله، ومسيطِرٌ بحسبه على منطقة التمدُّد.
 
ومثال ذلك، انسياب الماء، الذي يُحَوِّله إلى وجود حقيقي متمدِّد بحسبه، شاء من شاء وأبى من أبى.
 
ومن هنا ننقض على الشيوعيَّة حصرها الديالكتيك في الصراع المباشر بين الطبقات، بما نذهب إليه مِنْ إنَّ التوسع المُقتَدِر لشيءٍ، يعني بالضرورة تراجعَ كل ضِدٍّ له دون مصادمة أصلًا.
 
إذا فهمنا هذه المعادلة، قلنا:
• (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ).
• (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).
• قال النبيُّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): "عُمَّالكم أعمالكم، كما تكونون يولَّى عليكم".
 
إنَّنا ومحاكاة للمقالة الشيوعيَّة، نعتقد بأنَّ الحل لمشكلة الطبقيَّة التي يحاربها الشيوعي، أن يكون السعيُ في اتجاه البناء لثقافة داخلية تتراجع بتوسعها البرجوازيَّةُ تراجُعًا تلقائيًّا، وهذا في الواقع متعذِّرٌ جِدًّا ما لم تتوفر المجتمعات على هِمَمٍ عاليةٍ قادرة على صِناعة التاريخ، وليس الانفعال القهري بأحداثه!
 
إنَّ للبناء الداخلي ديالكتيك ذاتي يرفض الانحسار، بل ويتحقَّق الضِدُّ بمواصلة تقويته وتمتينه، ولكنَّ هذا - في نظري - بعيد المنال؛ فنحن نعيش تشَرُّبًا خطيرًا لثقافة المصادمة الشيوعيَّة، وقد انعكس ذلك على مجمل تعاطياتنا، حتى في الحوارات والمناقشات؛ فالغالب هو (إمَّا أنا وإمَّا أنت)، قاعدة حاكمة وإن غُلِّفَتْ بعبارات الأدب والتجمُّل، فالإرادة إرادة غلبة وإلغاء.
 
لا شك في أنَّ للاصطدام المباشر ضرورة تحدِّدها الموارد، ولكِنَّ الأصل هو الانطلاق على أساس التوسع الثقافي ميدانيًّا، بما يحقق تراجع الضِدِّ كلَّما كان التوسع قويًّا في برهانه، متينًا في استدلالاته، مع وجود عقول صادقة وقلوب مسؤولة تتحمل قضية التبليغ على أسس الاحترام، وحكمة قوله تعالى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ)، وكذلك قوله عزَّ وجلَّ (مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ * كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِن بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ * وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ).
 
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
14 فبراير 2015

No comments:

Post a Comment