Friday, February 13, 2015

المسامح كريم // إيمان الحبيشي

 
 
وكأنه مثلٌ شعبي مصري، لكن الإعلامي اللبناني جورج قرداحي حوّله لبرنامج "لمّ شمل". لا أعرف الهدف الحقيقي من وراء هذا البرنامج، فقد تكون مجرد فكرة ملفتة، لاقت رواجًا في مجتمعنا العربي المليء بالنزاعات، المهترئ في مشاعر التقبل والحب والتسامح، وقد وقع عليه بصري صدفةً!
 
حيث جلس رجلٌ طاعنٌ في السن، بالكاد يسمع أصوات المتكلمين معه، وحين يتحدث يخذله لسانه فيعيد كلماته مرات قبل أن يتمها جملة. وعلى الطرف الآخر جلست أمٌ منقبة في منتصف الشباب ربما، تنتظر معرفة السبب الذي دعيت من أجله للبرنامج!!
 
كان الداعي (سرًا) والدها الطاعن في السن، الذي أقعده المرض بعد خسارته لكل تجارته، فصار يصرخ كثيرًا ويعربد كثيرًا حتى طرده أبناءه عن رفقتهم!! فجاء بعد مدة للبرنامج معتذرًا نادمًا يطلب الصفح منهم!!!
أقرح قلبي ذلك المنظر، حين احتضن الرجل ابنته قائلًا: إن الشيخوخة عمر لا بدّ منه!!
لا أبقاني الله ليوم يطلب فيه والديَّ مني الصفح، وعلى رؤوس الأشهاد!!!
 
علاقة الآباء بالأبناء صارت من أكبر تحديات هذا القرن. فنحن نعيش في زمن الحقوق والحريات، إذ يدرك الأطفال حين يكبرون أن قسوة والديهم عليهم في صغرهم تعدّ جريمة، وعامل من عوامل العقوق الأبوي تجاه الأبناء، فيسمحون لأنفسهم بمحاسبتهم ومعاقبتهم أحيانًا!
 
في كتاب سماحة السيد محمد حسين فضل الله تحت عنوان "دنيا الطفل" تحدث عن خلط خاطئ حول مفهومين: (طاعة الأبوين كقيمة تربوية يحث عليها المجتمع وبين الإحسان تجاه الأبوين كواجب يؤكد عليه الشارع المقدس) فقد يكون الوالدين من دعاة المنكر، قساة جفاة غلاظ، فيكون من حق الأبناء رفض أفكارهم وسلوكياتهم لكن يبقى لهم حق الإحسان أصيلٌ لا يشوه نقاءه حتى الكفر بحسب الرؤية الإسلامية.
 
يقول خير القائلين ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
 
الزمن الجميل الذي كان فيه الآباء يرعبون أبناءهم حين يقبلون من أعمالهم، ولّى إلى غير رجعة مبتلعًا كل سلبيات ذلك الزمان وكل إيجابياته، وجاء الزمن الخبيث الذي يتنكر فيه الأبناء لآبائهم مبتلعًا أصالة الزمن الجميل ودفء علاقاته! إنها سنة الحياة؛ (التغيير)، لكن كيف نغربل عملية التغيير بحيث نترك سلبيات ماض يتسرب من بين أيدينا متمسكين بقوة بإيجابياته، لتكون لنا خارطة طريق تعيننا على وضع أسس صحيحة أصيلة لحاضرنا؟ فلا طاعة عمياء من الأبناء للآباء، ولا محاولة تحكم وسيطرة من الآباء للأبناء، ولا عقوق وتصفية حسابات! بل سمع وفهم وتبادل آراء وخبرات وإحسان.
 
نحتاج لتعريف واضح لمفهوم التربية، نحتاج لفهم واضح لدور الآباء اليوم، نحتاج لإدراك معنى الإحسان، وتوسعة حدوده فليست مجالاته مقتصرة على القول (سمعًا وطاعة أبتي)!! نحتاج أن ندرك مفهوم العقوق حقًا، فانشغال الأبناء في حياتهم المنهكة ما بين العمل وأسرتهم الصغيرة، يجب أن يلتمس له الآباء العذر دون أن يسمح الأبناء لأنفسهم بالغرق بين أمواج الإنشغالات بعيدًا عن والديهم.
 
كذلك نحتاج لجيل يمتلك قلبًا واسعًا محبًا معطاءً متفهمًا. فقد أقبلنا على الحياة كما أقبل أولادنا علينا، أطفال لآباء لا يمتلكون خبرة حقيقية في العملية التربوية، وإن أتيح لنا المجال نحن آباء اليوم لنقرأ ونشاهد ونطلع على مواد تعيننا على فهم نفسيات صغارنا وسبل التعامل مع مشكلات فلذات أكبادنا، فلم يكن يمتلك آباؤنا أكثر من خبرتهم كأبناء لأجدادنا. فيظنون أن واجبهم تجاهنا هو ما كان واجب آبائهم تجاههم! أن يرعبوهم ويكسروا شيئًا من عزائمهم ليكونوا رجالًا ونساء بارين بوالديهم ومجتمعهم. إن نسبة الخطأ في العملية التربوية ترتفع وتقل بحسب ترتيب ذلك الابن في أسرته، وظروف تلك الأسرة التي استقبلته حينها، فيكون من نصيب الابن الأكبر على الأغلب الحزم، ومن نصيب الابن الأوسط على الأغلب الإهمال، ومن نصيب الابن الأصغر على الأغلب التدليل وتلك قسمة ضيزى.
بينما اليوم تدرك الأم حين تنجب طفلًا جديدًا، أن عليها مداراة غيرة الابن السابق، فترعاه وتصبر عليه وتوليه من الاهتمام ما توليه، لتعزز ثقته في مكانته بقلب أمه، ولتمنع من نمو مشاعر الغيرة بين الإخوة، وهو ما لم تكن تعرفه أمهاتنا.
كم هو حجم التسامح الذي قد تخلقه محاولة فهم ظروف آبائنا وصدق محاولاتهم لرعايتنا؟!
 
أما آباء اليوم فمحتاجون جدًا ليدركوا حقيقة الدور الذي يجب أن يلعبوه، فليس دورنا أن نحدّ من حريات أبنائنا، وليس من حقنا أن نشتمهم وليس من حقنا أن نهملهم، بل من واجبنا نحن أيضًا الإحسان إليهم، وتعليمهم، وتربيتهم وربما نحتاج لشيء من الحزم لا القسوة في سبيل تهيأتهم لمعترك الحياة.. وقد يكون هذا الكلام مفهومًا جدًا على المستوى النظري إلا أنه شاق جدًا عند التطبيق.
 
نحن آباء اليوم نعيش التحدي الأكبر، فآباؤنا الطيبون ربما قسوا علينا.. فنحتاج حتمًا لتلمس العذر لهم والإحسان إليهم، رغم انشغالنا الشديد بتهيأة الحياة لأبناء فقدوا قيمة (الطاعة الأبوية) القديمة، فمن حقهم أن يطلبوا منا ما يشاؤون ثم حين لا نلبيهم يتهمونا بالتقصير وربما قلة الحب!
 
هي معادلة غاية في الصعوبة، نحتاج فيها للتحكم الشديد بالنفس، والمبادرة للاطلاع على الكم الهائل من المعلومات المتوفرة والتي بالمناسبة تحتاج لغربلة حقيقية ففيها الغث والسمين، لنربي أطفالًا يمتلكون عقول حاضرة، أذكياء قادرين على استدرار عواطفنا، نربيهم ونحسن إليهم ليبادلونا الإحسان إحسانًا، وبمختلف صوره المتعددة الجميلة.
 
ختام مقالي.. أوجه تحية لوالدي ووالدتي أبقاهم الله ذخرًا وسندًا.. ملتمسة منهم العذر لتقصيري والصفح عن إساءتي.
 
(رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا)
 
 
14 فبراير 2015

No comments:

Post a Comment