• في البدء ملاحظة:
يقع عنوان (مناقشات وردود) مرحلة ثانية من مراحل ثلاث تشكل سلسلة (الشُيُوعيَّة وإنْ غابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُهَا)، وهي مرحلة تعني بالتفكيك دون التركيب، وهذا الأخير سوف يأتي في المرحلة الثالثة من السلسلة إن شاء الله تعالى، ولذلك، أطلب من القارئ الكريم عدم الاستعجال، فالحلول والبدائل تأتي تاليًا بحوله وقوته عزَّ وجلَّ.
• مقدِّمة:
هذا خلقٌ بشريٌّ قائم، فيه الحَسَنُ من قِيَمٍ ومَلَكَاتٍ إنسانية مثل العدل والشجاعة والتسامح وحبِّ الخير، وفيه القَبِيِحُ، وهو الضِدُّ المباشر حتميُّ التحقق بمجرد ارتفاع الحَسَنِ؛ فترك الإنسان لممارسة العدل هو بالضرورة ظلم، وإن التزم داره وصام عن كل علاقة اجتماعية، ولذلك كان الساكت عن الحقِّ شيطان أخرس، غير إنَّ هذه القاعدة الأخيرة، ولمَّا فُسِّرتْ بحسب بعض الثقافات، أو كأثرٍ لها، عادَ عَدَمُ السكوت عن الحَقِّ توغُّلًا في الشيطَنَةِ بدل أنْ يكون فِرارًا منها!
إنَّه لا معنى لحصرِ (عدم السكوت) في الصِرَاخ، وهو كذلك في مختلف القضايا الإنسانية، ومنها قضية المطالبة بالحقوق التي يُطلق عليها عنوان (الحقوق المدنيَّة) تارة، و(العمَّالية) تارة أخرى، و(الأساسية) و(الطبيعيَّة) وما نحوها..
- هنا معادلة واضحة:
عندما يكون الغاصِبُ للحقِّ ضعيفًا، فإنَّ دفعه سهلٌ يسيرٌ، ولكنَّ هذا الضعيف نفسه، عندما يتحول إلى موقع القوَّة، فإنَّه يعمل على تحصين نفسه من جهة، وإحكام قبضته (الرادعة) لكُلِّ من (تُسوِّل) له نفسُه المطالبة بحقِّ من حقوقه.
تضعف القدرة على مواجهته؛ فالمواجهة مكلِفة، ولن يرتدع، والتاريخ يشهد بأنَّ القويَّ لا يكسره إلَّا الأقوى، وقوة القنبلة التي تدمر العشرات، لا تقدر عليها إلا أخرى تماثلها، ولذلك فإنَّ انحدار القويُّ وتسافل القيم عنده، لا يكسره (بحسب موازين البشر) إلَّا تسافل يوازيه أو يطغى عليه، ومن هنا كان القضاء على البرجوازية غير ممكن إلا بدكتاتورية البروليتاريا.
يقول فلاديمير لينين:
"إنَّهم يخافون من الاعتراف بأنَّ ديكتاتورية البروليتاريا هي أيضًا مرحلة من مراحل النضال الطبقي المحتوم طالما لم تُمح الطبقات، والذي تتغيَّر أشكالُه وتشتدُّ ضراوتُه وحِدتُّه، ويغدو جِدَّ أصيل في الأزمنة الأولى التي تلي إسقاط الرأسمال. إنَّ البروليتاريا لا تكفُّ عن النضال الطبقي بعد الإستيلاءِ على السلطة السياسيَّة، إنَّما تواصِل النِضال حتى محو الطبقات، ولكن طبعًا في أحوال أخرى، بِشكل آخر، بوسائل أخرى" (الحوار المتمدن-العدد: 2933 – 3 مارس 2010 ميلادية).
هذا محور من محاور معادلة المواجهة، وأمَّا المحور الثاني فهو تطويع المطالبة بالحقوق لمصلحة أمرين يتضحان تاليًا إن شاء الله تعالى.
هذا حقِّي أطالب به.. هذا حقِّي أنتزعه.. هذا حقِّي أحميه من أن أُغْصَبَه..
هي عناوين قديمة قِدَم المجتمع البشري، ولتحقيق مضامينها برزت الكثير من الأفكار كان من أكثرها تداولًا ورعاية أمميَّة، فكرة التنظيمات المدافعة عن (حقوق الإنسان)، وفي الغالب، تقوم هذه التنظيمات على أدبيات صريحة واضحة، تأتي في مقدمتها (سلميَّة المطالبة على طول الخط)، ولأنَّ السلميَّة في (المطالبة) لا تعني شيئًا للظالم الغاصب المستبد الجائر، فإنَّ أساليب المواجهة فيها عادة ما تكون مقدِّمة لتحول مفهوم المطالبة من حَقٍّ يُراد استخلاصه، إلى وظيفة تخصُّصِيَّة لها قوانينها وأصولها الموضوعة بحسب موازين فلسفيَّة ثابتة، قد لا يكون العامل في مجال (حقوق الإنسان) ملتفت إليَّها، ولكنَّ الذي أعتقده هو إنَّ (منظومة الأدبيات الحقوقيَّة) هي في الواقع ثقافة مقصودة تستند إلى (ثوابت) فلسفية لها جذرها التاريخي.
أتمكن باطمئنان، من الربط بين الثقافة العامة لحقوق الإنسان اليوم، وبين عقيدة الفيلسوف الألماني فويرباخ (1804 – 1872)، الذي يرى الألوهيَّة في الإنسان، ولا شيء سواه، وفي هذه النتيجة الفلسفيَّة تتحد معه النظرية الليبرالية، وهي فلسفة سياسيَّة تقوم على قيمتيّ الحرية والمساواة.
- فلنتأمل بشكل جيِّد أطراف المعادلة:
الطرف الأول: دول تمارس الدكتاتورية والاستبداد بروح واحدة وأشكال مختلفة، فتلك التي تدَّعي الحريَّة، فإنَّ الحريَّة عندها ليست أكثر من تمثال ينتصب بتاج يعلوه وشعلة هي في أدبياته الراية، وما دونه، سجون وتحقير وبيع للأجساد ومتاجرة بالعقول، وكلُّها باسم الحريَّة والانفتاح.
الطرف الثاني: شعوب ممنوعة من حقوقها، ومنها من هو ممنوع من حقِّ المشاركة السياسيَّة، ومنها الممنوع من حق التفكير الإبداعي خارج المنظومة السياسيَّة العليا، وهناك الممنوع من حقوقه الاقتصاديَّة والاجتماعية وغيرها، فكلُّ حكومة تمارس الغصب بما يناسب عقليتها.
الطرف الثالث: انقسام المجتمعات من حيث المطالبة بالحقوق إلى ثلاث فئات رئيسية:
الأولى: فِئَة مُخدَّرة، ولا تتمكن من التفكير في أكثر من معاشها وبأي مستوى يتاح لها، فهي تمشي بدائها ما مشي بها، دون أدنى دافع لتغيير.
الثانية: فِئَة غير قادرة، أو إنَّها لا تريد التفكير في غير عنوان المواجهة المباشرة وانتزاع الحقوق بالقوة، وهذه هي الملامة دائمًا؛ فإن ضُرِبت بيد البطش، كان ذلك مُبَرَّرًا بكونها تشكل تهديدًا على الأمن الداخلي وما نحو ذلك من عناوين سياسية معروفة.
الثالثة: الفئة المدافعة عن (حقوق الإنسان) بحسب المواثيق الدولية المقرَّرة في الأمم المتحدة، وهي وإن تعدَّدت توجهاتها، إلَّا إنَّها تجتمع في الفلسفة الليبرالية في خطوطها الكليَّة العامة.
عندما ننتقل إلى المشاهدة الخارجية، فإنَّ ما نراه هو ملفات (حقوقيَّة) تتضخم مع كل حركة لها من دولة إلى دولة، ومن طاولة إلى أخرى، ومن منصَّة إلى ثانية، وفي كل لحظة تبدي المنظمات الحقوقية (قلقها)، ويكون توثيق الانتهاكات من ظلم وجور وسفك للدماء، انجاز بطولي قام به (الموثِقون)، وبه استحقوا الترميز، ثم يتجدد المشوار بانتهاكات جديدة وتوثيقات جديدة وقلق جديد، وهكذا..
بهذه المعادلة تُؤَمِّنُ حُكُوماتُ البطش والاستبداد وجودَها بنفس الأداة التي يُؤمِنُ الليبراليون بها طريقًا لنيل الحقوق، ثُمَّ لهذه التركيبة الحقوقيَّة دور آخر يأتي عندما تقرر الدول العظمى إزالة نظامٍ من أنظمة الحكم، فإنَّها تلجأ إلى اتخاذ قرار أمميِّ يستند على ملفات حقوقيَّة سابقة!
• ملاحظة مهمَّة: تشرفتُ بالتعريف على عدد غير قليل من العاملين في حقل حقوق الإنسان في بلدنا، ولم أجدهم إلَّا خيِّرين طيِّبين محبِّين للخير، فما أناقشه هنا إنَّما هو الفكرة، ولا علاقة للأمر بالشخصيات على الإطلاق.
تبقى عندنا الفئة الثانية من الطرف الثالث، وهي المعروفة بعنوان (الثوريَّة)، وفي نظري، هي الخطُّ الذي تدفع به الشيوعيَّة أمام خطِّ آخر تطلق عليه عنوان (النضال)، وهذا تنظيم أرى المُنّظِّرَ الشيوعي قد استحدثه بعد السقوط العنواني للاتحاد السوفيتي في نهاية (1991م)، فالمُنَاضِلُ اليوم هو الذي يفرغ نفسه لتحمل هموم الناس في الأطر الحقوقيَّة، التي كلَّما زاد تمسكُه بها، كلَّما علا نجمه بين الناس، وأمَّا (الثوري)، فهو الذي اختار طريق المواجهة المباشرة بالقوة، وعليه يعتمد المناضل الحقوقي في تحقيق أعلى مستويات المهنية في الملف الحقوقي الذي يحمله.
يتَّضِحُ الأمران، فالأول هو حماية الظلم مقصدًا للرأسمالية، واستغلالها مقصدًا للماركسية، وأمَّا الثاني، هو تخدير المطالبات وتحريكها في الاتجاه الذي يفرضه ديالكتيك الرأسمالية والشيوعيَّة.
• النقابات والتعاونيات:
تنتشر في مجتمعاتنا ثقافة النقابات والتعاونيات كمَعْلَمٍ من معَالِم التحضر والرقي، وقد يكون هذا صحيحًا في نفسه، ولكنَّ الذي ينبغي لنا تتبعه بِدِقَّة هو مهارة الآخر في استغلال الواقع القائم لمصلحته، ومن أمثلة هذه الاستراتيجية المتقدِّمة، التوجه الشيوعي لاستغلال المنظمات النقابية والتعاونية بقوة وعن دراسة واهتمام، وقد جاء في مُقرَّر المؤتمر الثاني للشيوعيَّة الأمميَّة:
"يقرر المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية أن شروط القبول في الأممية هي التالية:
1- ينبغي أن يكون للدعاوة والتحريض اليوميين طابع شيوعي حقا، وأن يتفقا مع برنامج الأممية الثالثة وقراراتها، وأن يحرر كامل صحافة الحزب شيوعيون حقيقيون، أثبتوا تفانيهم في سبيل قضية البروليتاريا. ولا يحْسن الحديث عن الديكتاتورية البروليتارية كصيغة محفوظة ورائجة، بل يجب أن تتم الدعاوة بشكل يظهر ضرورة هذه الديكتاتورية لكل شغيل، لكل جندي، ولكل فلاح، عبر وقائع الحياة اليومية نفسها المدوّنة في صحافتنا. إن الصحافة الدورية أو غيرها وجميع مصالح النشر يجب أن تخضع كليا للجنة المركزية للحزب، أكان هذا الحزب شرعيا أو غير شرعي. فمن غير المقبول أن تسيء أجهزة الدعاوة استخدام الاستقلالية، من أجل اتباع سياسة لا تتفق مع سياسة الحزب. في أعمدة الصحافة، وفي الاجتماعات العامة، وفي النقابات، وفي التعاونيات، وفي كل مكان يصل إليه أنصار الأممية الثالثة، عليهم أن يفضحوا بشكل دائم ودون شفقة ليس فقط البرجوازية بل المتواطئين معها أيضا، الإصلاحيين بمختلف تلاوينهم.
2- على كل تنظيم يرغب في الانتساب إلى الأممية الشيوعية أن يبعد الاصلاحيين و«الوسطيين» بانتظام وبشكل دائم عن المراكز، التي تفرض ولو حدا أدنى من المسؤولية (منظمات الحزب، التحرير، الكتلة البرلمانية، التعاونيات والمجالس البلدية)، وأن يستبدلهم بشيوعيين مجربين – دون أن تخشى أن يكون عليه، خاصة في البداية، أن يستبدل مناضلين مجربين بشغيلة متدرجين.
3- يدخل الصراع الطبقي في جميع بلدان أوربا وأمريكا تقريبا مرحلة الحرب الأهلية، ولا يمكن الشيوعيين ضمن هكذا شروط أن يثقوا بالشرعية البرجوازية، وعليهم أن يخلقوا في كل مكان بموازاة التنظيم الشرعي، جهازا سريا قادرا على تأدية واجبه في اللحظة الحاسمة تجاه الثورة. وفي جميع البلدان حيث لا يتمكن الشيوعيون من تطوير نشاطهم بأكمله بشكل شرعي، بسبب حالة الطوارئ والقوانين الاستثنائية، يصبح الجميع بين النشاط الشرعي والنشاط غير الشرعي ضرورة أكيدة.
4- إن واجب نشر الأفكار الشيوعية يفرض ضرورة اتباع دعاوة وتحريض منظمين ومستمرين بين الجنود، كضرورة مطلقة، وحيث تصعب الدعاوة العلنية بسبب القوانين الاستثنائية، يجب أن تتم بشكل غير شرعي، ورفض ذلك يعني خيانة الواجب الثوري وهو بالتالي لا يتناسب مع الانتماء للأممية الشيوعية.
5- هناك ضرورة للتحريض العقلاني والمنهجي في الأرياف. فالطبقة العاملة لا تستطيع أن تنتصر إذا لم تكن مدعومة على الأقل بجزء من شغيلة الأرياف (المياومين الزراعيين وفقراء الفلاحين) وإذا لم تحيّد بسياستها جزءا على الأقل من الريف المتخلف. إن النشاط الشيوعي في الأرياف يكسب في هذه المرحلة أهمية رئيسية ويجب أن يقوم به العمال الشيوعيون الذين لهم صلة بالأرياف. إن رفض القيام بهذا العمل أو إسناده إلى أنصاف إصلاحيين مشكوك فيهم، يعني التخلي عن الثورة الاشتراكية."
(أقترح على القارئ الكريم الاستفادة من قراءة المقرر كاملًا على موقع (الماركسيون): https://www.marxists.org/arabic/marxism/politics/international/congress_2.htm#09)
ليس من الوارد أن نرى الراية الشيوعيَّة مرفوعة على طاولات النقابيين، فهذا أمر بعيد في هذا الطور بحسب الرؤيَّة الشيوعيَّة، ولكنَّ الذي ينبغي التركيز عليه، هو تفحُّص الشعارات والنظريات التي ينطلق منها العمل النقابي، ثم العودة للبحث في النظريات السياسية والاجتماعية التي عصف بالمجتمعات البشريَّة، وخصوصًا في عصر التنوير.
* نظرية المؤامرة:
سمعتُ كثيرًا عن من يؤيد نظرية المؤامرة، ومن يُنكِرها، وفي الواقع ليس هناك ما يسمى بنظريَّة المؤامرة، ولكن هناك من يُخطِّط عن دراسة ووعي، ثُمَّ يُنفِّذ، وإن راق للبعض تسميتها بالمؤامرة، فهي كذلك، وعلى أيَّة حال، فإنَّني لم أجد من يتحرك خارج إطار المخطط العالمي، ولك أن تسمِّي ذلك مؤامرة، وإن شئت فسمِّه صدفة، فإنَّ ذلك لن يغير من الواقع شيئًا.
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
7 فبراير 2015
No comments:
Post a Comment