بسم الله الرحمن الرحيم
بداية السكن خارج المعهد:
قررنا - فيصل وأنا - أن نسكن خارج المعهد بالقرب من المركز الإسلامي نظرًا لوجود أغلب الطلبة الخليجيين من القطيف والإحساء في تلك المنطقة. هذه المنطقة تُسمى مدينة بيفرتون وهي تبعد قرابة النصف ساعة عن مركز مدينة بورتلاند. وبينما كنّا نبحث عن شقة، طرح علينا الأخ أبو محمد فكرة السكن معه مبدئيًا كونه يسكن لوحده بعد أن أرجع زوجته وأولاده إلى القطيف، فوافقنا على ذلك المقترح.
كانت تجربة السكن مع الأخ أبي محمد رائعة ومثمرة، وقد تعلمنا منه الكثير نظرًا لوجوده قبلنا في أمريكا بسنتين أو أكثر، وهو من الطلبة المبتعثين من شركة أرامكو السعودية وكان يكبرنا سنًا وقد أحاطنا برعايته وعنايته. يُعتبر أبو محمد من الطهاة الماهرين وقد تعلمنا طرق الطبخ على يديه، ومن الملفت للنظر أنه يقوم بعدة أمور في آن واحد حين يعدّ الطعام، فتراه يتحدث إليك، ويطبخ، ويغسل الأطباق، بل أنه لا يترك المطبخ إلا وهو نظيفٌ جدًا. كذلك فإن شقته ملتقى أصدقائه من الطلبة، ففي كل ليلة من ليالي الأسبوع يسهرون في المذاكرة وحل الواجبات. أما ليالي الويك إند، فإن الشباب يلتقون في هذه الشقة - كونها شقة العزاب - للسهر وتبادل أطراف الحديث. وكان أبو محمد شغوفًا بالسياسة ومتابعة الأخبار أولًا بأول، لذلك تراه خصوصًا في الأحاديث السياسية مطلعًا جدًا ويشدّك بتحليلاته السياسية، وكان أيضًا يمتلك روح الدعابة والمرح. لم نمكث مع أبي محمد فترة طويلة، إذ استأجرنا - فيصل وأنا - شقة في نفس السكن.
السيارة:
صديقي فيصل لم يكن مقصرًا في إيصالي إلى أي مكان أريد، إلا أنني بدأتُ أشعر بضرورة أن تكون لديّ سيارة خاصة بي خصوصًا أننا على مفترق الالتحاق بالدارسة الأكاديمية مما يعني اختلاف الجامعة أو الكلية، وكذلك اختلاف مواعيد المحاضرات. لذلك قررتُ أن أبحث على سيارة بسعر معقول. كان في المركز الإسلامي إيرانيٌ يُسمى حسن أكبري، وهو رجل كبير السن يقوم بتوفير اللحوم الإسلامية في المركز وله خبرة في السيارات وأسعارها. أخبرته عن رغبتي في شراء سيارة رخيصة مستخدمة. اشتريت سيارتي الأولى عن طريق أكبري وكانت عبارة عن "ستيشن واجن" أطلق عليها فيصل مُسمى "الأسطول" لكبر حجمها، وبالرغم من قِدَمِها إلا أنها كانت مريحة جدًا، لكن فيها علة واحدة حاولتُ مرارًا أن أصلحها بدون جدوى. أخبرتُ أكبري عن علتها، فاسترجعها وجاء لي بسيارة ظلت معي طوال سنوات مكوثي في بورتلاند.. سيارة قديمة جدًا، داتسون موديل سنة 1979 ذات لون بني داكن كلفتني حوالي الخمسة مئة دولار. كانت هذه السيارة موضع سخرية من فيصل لكنه بعد سنوات وفي لحظة صفاء ذهن اعترف لي بأن صفقتي في شراء هذه السيارة أفضل بكثير من تجاربه مع سيارات دفع فيها مبالغًا كبيرة، لكنه لم يتوفق فيهم.
الغريب فعلًا أنني لم أتعرض إلا لمشاكل بسيطة مع هذه السيارة، وغالب المواطنين في تلك الفترة وتلك المنطقة كانوا يقتنون سيارات قديمة لكن أداء السيارات جيد، ويرجع السبب في ذلك إلى طقس المنطقة، فهو غير حار مما يؤثر سلبيًا على أداء السيارة. إنّ الشعور الذي تملكني حين اقتنيت هذه السيارة هو شعور بالحرية والراحة.. على الرغم من أن فيصل لم أشعر منه يومًا بمنّة في توصيلي إلى أي مكان، بل كنا نقضي معظم الأوقات نتسامر ونتحادث مع بعضنا البعض ذهابًا وإيابًا، إلا أن الإحساس بامتلاك سيارة شعور لا يوصف. هذه السيارة أقلتني للكثير من المناطق ولي معها مغامرات كثيرة. ومن الصدف الغريبة أنه في أحد الأيام سمعتُ طرق الباب، ولما فتحته وإذا برجلين ضخمين من الإف بي آي (شرطة التحقيقات الفيدرالية الأمريكية).. سألوني عن صاحب السيارة السابق، وهو إيراني يبدو أن ملفه عندهم. قلتُ لهم لا علم لي به، وأخبرتهم أنني اشتريت السيارة عن طريق وسيط. بعد إجابتي على أسئلتهم مضوا إلى حيث أتوا..
تم سرقة السيارة العزيزة على الرغم من شيخوختها مرتين، وفي إحداهما وجدوا سكرانًا نائمًا فيها، إذ يبدو أن السارقين بعد أن سرقوا منها المذياع ورموا أشرطة الكاسيت والتي أغلبها عزاء أو محاضرات، تركوها في أحد الشوارع فجاء هذا السكير ودخل فيها ونام.. وقد قام السارقون بكسر مشغّل السيارة وكنتُ أقوم بتشغيلها بدون مفتاح لفترة طويلة وذلك عن طريق استخدام مفك البراغي حتى تمكنت من شراء مشغّل جديد لها.
لم أتذكر أنني غيّرتُ فيها الزيت لعدة سنوات، بل كل ما أفعله أنني أضيف الزيت كلما نقص. حتى أن أحد الأصدقاء تبرع بتغيير الزيت لسيارتي واستغرب من تجمّد الزيت فيها وكيف أنها لا تزال تعمل على هذه الحالة. لكن للأسف، بعد عملية تغيير الزيت هذه، ظهرت المشاكل فيها. لحسن الحظ أنني كنت على وشك ترك المدينة للانتقال إلى مدينة دراسية أخرى، وقد أعطيتها لأبي حيدر ليستفيد منها، وقد علمتُ أنه لم يتوفق فيها بتاتًا. فأول ما أخذها مني حصل على مخالفة، ثم بعد أٍسبوع عمل حادث بها، فعاجل ببيعها على عراقي آخر بعد أن أصلحها.. لم يهنأ العراقي بها، إذ عطبت الماكينة بعد فترة وجيزة، وعلى إثرها قرأتُ الفاتحة على روحها.
رخصة القيادة:
عندما اشتريت السيارة لم يكن معي رخصة قيادة.. وقد استمريت على هذه الحالة لمدة سنتين. بعدها وفي إحدى المرات أوقفني شرطي المرور، فسألني عن رخصة القيادة فقلتُ له ليس عندي رخصة قيادة. فسألني عن البطاقة الشخصية، ولم تكن معي.. فخاطبني بلهجة صارمة: "إذًا ستذهب إلى السجن". قلتُ له أنه يوجد معي دفتر شيكات وعليه اسمي وعنواني. أريته دفتر الشيكات ولا أعلم كيف قَبِل بذلك الدفتر بأن يكون بطاقة تعريفية بي. إلا أنه أعطاني ثلاث مخالفات. الأولى: السياقة بدون رخصة، الثانية: عدم امتلاكي تأمين للسيارة (وقد بدأ للتو التأمين الإلزامي)، والثالثة: انتهاء التسجيل للسيارة. بلغت قيمة المخالفات الثلاث قرابة الثلاثمائة وخمسين دولارًا، حينها قلتُ في نفسي: حان الوقت لاستخراج رخصة القيادة.
يتطلب الحصول على رخصة القيادة تقديم اختبار نظري وآخر عملي. أما النظري فهو عبارة عن اختبار بالكمبيوتر لعشرين سؤال، ولكل سؤال أربعة إجابات. وأما العملي فهو أن تُختبر بسيارتك مع موظف في إدارة الرخصة والقيادة. قدّمتُ الاختبار ونجحت واستخرجتُ رخصة القيادة. وقمتُ بتجديد تسجيل السيارة والتأمين عليها.
المحكمة:
قررتُ أن أذهب إلى المحكمة ومع أني كنتُ خائفًا، إلا أن المبلغ المقرر عليّ دفعه للمخالفات كثيرٌ جدًا وهناك احتمال أن يقوم القاضي بتخفيض قيمتها. كانت تلك أول مرة أدخل فيها المحكمة، وقد قمتُ بالسؤال عن لوجستيات المحكمة فقيل لي أن عليّ أن أخاطب القاضي بصيغة معينة وأن أحاسب في طريقة وقوفي وحركاتي. دخلت القاعة وقد كانت ممتلئة بالمخالفين من أمثالي، وهذا جعلني أشعر بأنني لستُ المذنب الوحيد، فغيري كثير ولله الحمد. كان القاضي قاضية.. لاحظتُ طريقة تعاملها مع القضايا، فالذي يقرّ بذنبه ولا يجادل تكون متساهلة معه، أما مَن يُبرر ويجادل فهي شديدة وقاسية معه.
جاء دوري ونودي علي.. وقفتُ أمامها صامتًا وهي تنظر إلى أوراقي، لم ترفع بصرها إلي، بل خاطبتي وهي لا تزال تنظر في الأوراق. زهير كاظم، أراك قد حصلت على رخصة القيادة، وجددّت التسجيل وأمّنت السيارة، فماذا تريد أن تقول؟ قلت: لا شيء يا سعادة القاضية. رفعت ببصرها نحوي وابتسمت وقالت الحكم فلم أسمعه جيدًا لأني كنتُ مرتبكًا.
خرجتُ لأدفع قيمة المخالفات، فقال لي كاتب المحكمة في قسم المخالفات: ثلاثة عشرة دولار. قلتُ: كم؟ قال: 13 دولار، فقد قامت القاضية بإسقاط مخالفتي الرخصة والتأمين، وخفضت مخالفة التسجيل من 31 دولارٍ إلى 13 دولار. دفعت قيمة المخالفة وخرجتُ من المحكمة مسرورًا.
الحياة الأكاديمية:
بعد قضاء أربعة فصول في معهد اللغة، حان الوقت للدخول إلى معترك الحياة الأكاديمية، وقبل ذلك أود أن أوضح أن الفصل الدراسي في أمريكا على هيئتين: الأولى نظام الربع "الكوارتر" وهو نظام الأربعة فصول "الخريف، الشتاء، الربيع، الصيف" وتكون الدراسة في كل فصل منه حوالي الشهرين والنصف مع عطلة أسبوع أو أسبوعين بين الفصل والآخر، وهو نظام معمول به في القليل من الكليات والجامعات، أما الثاني وهو الأكثر شيوعًا، فهو نظام "السيمستر" وهو نظام الثلاثة فصول: "الخريف، والربيع، والصيف" ويستغرق حوالي الثلاثة أشهر والنصف.
والطالب إما أن يكون مبتعثًا (وهناك مستويات مختلفة من الابتعاث)، أو يدرس على حسابه الخاص مثلي. في الغالب يضطر الطالب أن يلتحق بكلية لمدة سنتين لإنهاء المواد الأولية من الدراسة ثم يلتحق بعد ذلك بالجامعة والسبب في ذلك أن مصاريف الجامعة عادة ما تكون باهظة الثمن (تقريبًا ثلاثة أضعاف مصاريف الكلية).. كانت هناك كلية يدرس فيها أغلب الطلبة الخليجيين واسمها "كلية بورتلاند"، وكانت قريبة من منطقة سكني، بينما توجد كلية أخرى بعيدة باسم "كلية كلارك" في الولاية المجاورة (واشنطن) بمدينة فانكوفر، وكان الطلبة الخليجيون أقلية في هذه الكلية. كانت المسافة إلى كلية كلارك قرابة الساعة إلا ربعًا.
قررتُ أن ألتحق بالكلية القريبة مني ولكن...
يتبع في الحلقة القادمة..
7 فبراير 2015
No comments:
Post a Comment