Friday, February 13, 2015

على ضفاف الذكريات (11) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

حينما قررتُ أن ألتحق بالكلية للدراسة الأكاديمية، كنتُ أعيش حينها حيرة لم أبُح بها لأحد.. كانت أمنيتي أن أدرس الطب وعلى هذا الأساس جئت إلى أمريكا، ولكن هل كانت تلك أمنيتي بالفعل، لا.. وألف لا.. بل هي أمنية يعيشها أغلب الطلبة.. جئتُ وأنا أحمل أمنيةً تم غرس بذورها فيّ منذ نعومة أظفاري، لكن لم تكن تلك الأمنية إلا صدىً لصوت المجتمع الذي يرى في الطب منزلة اجتماعية مرموقة تدل على نبوغ الطالب وذكائه.. وكما تصطدم هذه الأمنية بواقع تمييزي في وطني، اصطدمت أمنيتي بواقع دراسة الطب في أمريكا للطلبة الأجانب والذي لا يتجاوز نسبة ضئيلة جدًا تصل إلى 3% أو أقل، بل أن بعض الجامعات تنصح الطالب الأجنبي بأن يفكر مليًّا قبل العزم على الالتحاق بكلية الطب. كذلك فإن دراسة الطب تتطلب أن يُكمل الطالب دراسة البكالوريوس - 4 سنوات منها ثلاث سنوات طب تمهيدي - قبل أن يتم قبوله في كلية الطب والتي تستغرق أيضًا 4 سنوات أخرى، ثم 3 إلى 7 سنوات دراسات عليا طبية أو دراسة تخصصية تدريبية. 

كانت الحيرة مسيطرة عليّ لكني تذكرتُ حديثًا لأخي الأكبر قبل ساعات من سفري نصحني بأن أتخذ قراراتي بنفسي وأن لا أعتمد على أحد من أهلي في اتخاذ القرار، إذ سأكون أكثر قُربًا وإحاطة بظروف القرار وظروف الدراسة في أمريكا أكثر منهم، كما أنه نصحني قبل ذلك مرارًا بأن أدرس ما أحبه ويناسبني من تخصصٍ. تذكرتُ حديثه وحسمتُ أمري في دراسة الهندسة.. كان القرارُ مريحًا بالنسبة لي بعد قلقٍ استمر لسنة كاملة.

كنتُ قد قررتُ أن ألتحق بالكلية القريبة من سكني، لكنها أصدرت قرارًا جديدًا بجعل اختبار التوفل من المتطلبات للالتحاق بها، ولم أكن قد قدّمتُ اختبار التوفل في تلك الفترة، بل لم أكن أنوي تقديمه خوفًا منه. يحمل اختبار التوفل هيبة ورهبة في قلوب الكثير من الطلبة العرب حيث يقوم الكثير منهم بالتحايل من أجل اجتياز هذا الاختبار. كان أحد الأصدقاء عبد الرسول من الأحساء وهو من الطلبة الذين هاجروا إلى أمريكا بفترة طويلة يقوم بتقديم اختبارات التوفل للكثير من الطلبة العرب وكان يتقاضى مبلغًا باهضًا من أجل ذلك. مع أن تقديم الاختبار يتطلب أن يجلب المختبِر جواز سفره كبطاقة تعريفية به، إلا أن عملية التزوير كانت سهلة بالنسبة له.    

عزمتُ أن ألتحق بكلية كلارك في مدينة فانكوفر - شمال بورتلاند-، وهي كلية أنشئت في عام 1933 وتقع على مساحة قدرها 0.41 كيلومتر مربع. تميزت هذه الكلية حين التحاقي بها بقلة الطلبة العرب، وربما كان دخولي فيها بداية لالتحاق الكثير من الطلبة العرب الذين جاؤوا بعدي. في البداية، يقوم الطالب بتقديم عدة اختبارات في اللغة الإنجليزية والرياضيات وغيرها لتقييم وضعه الدراسي. تم وضعي في مادة اللغة الإنجليزية English Writing المقررة على الطلبة - أمريكان وأجانب -، واخترت عدة مواد أخرى من قبيل الرياضيات والكيمياء والفيزياء. وبالرغم من مكوثي في دراسة اللغة لمدة عام كامل، إلا أنني استشعرتُ الغربة في الفصل في بداية الأمر، فكانت لغة المدرس والطلبة وكأنها لغة أجنبية عني.. كنتُ أشعر وخصوصًا أول أسبوعين أن هذه المادة - اللغة الإنجليزية - غريبة عليّ ربما نظرًا لاختلاف طبيعة الدراسة من اللغة في المعهد إلى الدراسة الأكاديمية في الكلية. لكن بعد الأسبوعين تأقلمت مع الوضع الدراسي، وبعد فترة اكتشفتُ أن الأمريكان يجدون صعوبة أكثر في الكتابة باللغة الإنجليزية. أذهلتني هذه الحالة عند الطلبة الأمريكان. كيف لهم وهم من ترعرعوا على اللغة الإنجليزية أن يجدوا صعوبة في الكتابة بها! ثم تداركتُ نفسي حين قارنتُ حالهم بحال أغلب الطلبة العرب الذين يواجهون نفس المشكلة في لغتهم العربية الأم.  
 
بدأ الاختلاط قليلًا بغير العرب في هذه الكلية، إذ كان الاختلاط في السنة الماضية مقتصرًا على الطلبة العرب في المعهد وفي المركز الإسلامي.. كان هذا الاختلاط محدودًا بعدة زملاء وأغلبهم ليسوا أمريكان.. في مادة الكيمياء، كانت القاعة كبيرة جدًا وممتلئة بالطلبة، أما الرياضيات فكانت بداية العشق لهذه المادة التي تقوم عليها معظم مواد الهندسة.
 
في الكلية، أثار انتباهي حالة غريبة، إذ توجد نسبة ليست بالقليلة من الطلبة كبار السن تتعدى أعمارهم الأربعين عامًا. كانوا يحضرون الفصل وهم أكثر انتباهًا واستيعابًا للمادة من الطلبة صغار السن من أمثالي. كان أحد الطلبة من كبار السن فيتناميًا، إذ شكّلت فئة الفيتناميين نسبة ليست بالقليلة من الطلبة وأغلبهم كانوا لاجئين.. كان الطالب الفيتنامي يجلس في آخر الفصل، ويضع حقيبته المدرسية الكبيرة نسبيًا على الطاولة أمامه. لم أعرف سبب وضعه للحقيبة في البداية، إلا أنه وبعد فترة وجيزة التفتُ إلى أنه يضع جريدة خلف حقيبته ويقوم بحل الكلمات المتقاطعة، وبين فترة وأخرى يُلقي بنظراته إلى السبورة.


في بادئ الأمر كنت أضحك من تصرفه، إذ ما الذي يدعوه لأن يحضر ويُتعب نفسه في التسجيل للدراسة، وهو لا يولي اهتمامًا للدرس، بل ينصرف بحل الكلمات المتقاطعة. في إحدى المرات وبينما البروفيسور يحل مسألة رياضية وقد ملأ السبورة بخطوات الحل وصاحبنا الفيتنامي منشغلٌ ولاهٍ بحل كلماته المتقاطعة، وإذا به يلتفت إلى السبورة ويرفع يده. بعد أن انتهى البروفيسور من كلامه، التفت للطالب وسمح له بالكلام، وإذا بصاحبنا الفيتنامي يقول للبروفيسور إن حله للمسألة الرياضية خاطئ. كانت كلماته قصيرة وحادة تغلب عليها اللكنة الآسيوية.. نظر إليه البروفيسور مستفسرًا متعجبًا، فأشار الفيتنامي إلى إحدى خطوات الحل وبيّن الخطأ فيها ونوّه إلى أن الخطوات اللاحقة خاطئة بناءً على خطأ تلك الخطوة. نظر البروفيسور إلى السبورة وهز رأسه قليلًا متذمرًا وأخذ الممحاة وقام بمسح السبورة بالكامل وبدأ بالحل من جديد.

كوّنت مع الفيتنامي علاقة صداقة استمرت طوال مكوثي في هذه الكلية وهي فترة عامين دراسيين.. كنّا معًا في معظم المواد الدراسية، ونقضي الكثير من الأوقات في حل الواجبات أو المذاكرة للامتحانات. كان الفيتنامي يعمل بالإضافة إلى الدراسة، وذلك حال معظم الطلبة الأمريكان والمقيمين، أما الأجانب، فقد كان غير مسموح لهم العمل إلا في الكلية أو الجامعة، أو يقوموا باستخراج تصريح من إدارة الهجرة والجوازات. تبدأ حياة العمل عند أغلب الأمريكان منذ بلوغهم السادسة عشرة من أعمارهم في مرحلة الثانوية العامة. الملفت للانتباه أنك تجد الأمريكي في كل المهن والأعمال، فهو مدرس، وطبيب، وصاحب محل، وعامل، وأجير، وطبّاخ ونادل إلى آخرها من الأعمال والمهن.



رحيل الإمام:

في يوم 3 يونيو عام 1989 كنتُ جالسًا مع الأخ أبو عبد الله من الكويت في شقتي نتسامر أطراف الحديث، والتلفزيون كان موجهًا على قناة الهيدلاين نيوز.. وإذا بالخبر الصاعق.. وفاة آية الله روح الله الخميني (قدس سره).

    
كنا نتابع في تلك الأيام أخبار صحة السيد الإمام، ومع توقعي بقرب وفاته إلا أن الخبر كان فجيعًا.. قد أفل نور السيد الإمام، وصعدت روحه الطاهرة إلى بارئها.. انهار أبو عبد الله بكاءً، وجلستُ صامتًا والغصة في حلقي لا أستطيع أن أنطق بكلمة واحدة. اسودّت الدنيا أمامي فلم أعد أُبصر. كان الإمام الخميني (قدس سره) بالنسبة لنا نبراسًا أعاد للإسلام وهجه.. أتذكر عندما كنتُ صغيرًا وقبل انتصار الجمهورية الإسلامية، كنّا قلة نحضر صلوات الجماعة وندرس في المكتبة الإسلامية في وقتٍ كان التديّن يعدّ رجعية وتخلفًا. وجاء انتصار روح الله الخميني على شاه إيران ليقلب المعادلة رأسًا على عقب.. شاع التديّن وساد.. وأصبح الإسلام عزًا يفتخر أبناؤه بالانتماء إليه. كنا ننتظر الانتصارات المتوالية لدولة الإمام المنتظر رغم وقوف كل قوى عالم الاستكبار ضدها..



عشر سنوات عشنا أحداثها مع بروز نجم آية الله الخميني قائدًا رهبريًا لا يهزه مكر كارتر ولا زئير ريغان.. عشرٌ لم يقضَ لها أن تطول، وقد تمدد جسده الطاهر على فراش المرض بعد أن تجرّع السم.. كانت صوره وهو يؤدي الصلاة في آخر ساعات عمره متكئًا تبعث في قلوبنا الحزن والوجل من قرب رحيله، وها نحن نستمع خبر وفاته. لا أعلم كيف مرّ ذلك اليوم العصيب فهول المصيبة كان فادحًا، إلا أننا تسمّرنا على التلفاز نتابع الأخبار بحزن وأسى لعدة أيام.. انتظرنا ثلاثة أيام حتى شيّع جنازته الملايين ووري جثمانه في جنة الزهراء.

 
كان لذلك الرحيل الأثر الكبير على النشاط الديني والسياسي في أمريكا، فقد بدأت مرحلة الوهن والضعف بعد رحيله. أصبحت الحالة الدينية بعد وفاته تحتاج إلى تنشيط بعد أن كان وجود الإمام يمدها بالنشاط والحيوية.. ربما ملّ الناس من الانتظار.. ربما أحبطت الآمال في الانتصار على قوى الاستكبار.. ربما انهكت الحرب العراقية الإيرانية العزائم والهمم.. ربما تغيّرت القناعات والأفكار.. لكن الأكيد أن رحيله قدس سره نهاية لمرحلة وبداية لمرحلة أخرى.. مرحلة جديدة اتسمت بعزوف الكثيرين عن النشاط الديني والسياسي وخصوصًا الإخوة الإيرانيين.. 
     
 
يتبع في الحلقة القادمة..


14 فبراير 2015
 

2 comments: