Friday, February 6, 2015

كل الأرض ان شئنا لنا وطنا // إيمان الحبيشي

 
 
لكلٍ منا وطنٌ وُلد به، يعرف تاريخ أبويه وأجداده فيه، ينتمي لِقُراه ويتذّكر أيام طفولته على ثراه، ينتمي له لا لأي أرض سواه، تصاغ هويته من مائه وسماه. يتتبع تاريخه ويفتخر باسمه، ربما ينعم على أديمه بالأمن والأمان، وربما يتجرع عليه الويلات، إلا أنه يبقى وطنه الذي يُعلن كل حين بأنه مستعدٌ للموت دفاعًا عنه، مستعدٌ للفناء من أجل بقائه ونماه.
 
السؤال: ما هو الوطن؟ هل هو الأرض؟ أم جملة مترابطة من العناصر تشكل الأرض عنصرًا مهمًا من عناصره؟
 
استحضرني هذا السؤال كثيرًا بينما كنت أسير في شوارع مدينة "مشهد" الإيرانية التي زرتها لأول مرة في حياتي لعدة أيام.. لن أتحدث عن طبيعتها الخلابة التي صوّرها خالق مبدع، لكني سأتحدث عنها كمدينة ذات شوارع غاية في النظافة، تُنْبِؤُك أن النظافة سلوك وثقافة شائعة هناك.
مدينة متطورة تحوي كل ما تحويه مدننا الخليجية المترفة، إلا أن الفرق أننا نستورد كل أدوات التطور من الخارج، بينما هم قد صنعوا أدوات تطورهم، فالطائرة والسيارة من صنع محلي، وكذلك المشروبات الغازية والعصائر، ومن النادر أن تجد مصنوعًا لم يصنع بأيديهم.
في أحد تنقلاتنا داخل المدينة، وبالتحديد أثناء توجهنا لبحيرة "جالديرا" الجميلة، حدّثنا سائق التاكسي عن بلده.. يقول أن الحصار المفروض عليهم قد أثر سلبًا خصوصًا في السنوات الأخيرة، إذ أنه أضعف قوة عملتهم مثلًا، وهو أمر له تبعاته الاقتصادية قطعًا، لكنه استدرك ذلك حامدًا الله وشاكرًا، ذاكرًا حديث شريف للإمام علي عليه السلام : "نعمتان مجهولتان الصحة والأمان".
 
طافت بمخيلتي شوارع قرانا الممتلئة بالآلات العسكرية، حتى ليظن القادم من البعد أنه يعبر بإحدى المناطق الفلسطينية! طوال فترة تواجدي بتلك المدينة، لم أصادف سيارة أمن واحدة! وحين رأيت عسكريين فقد رأيتهم فرادى وبدون سلاح، بينما يسيرون في الطرقات أو يركبون سيارتهم الخاصة.
 
أتذكر أني قلت في سري، أو ربما همست بها لأحدٍ ما: (لو كانت هذه الأرض وطني لافتخرت بها)!
 
إلا أن تلك الأرض ليست وطني!!! تُرى:
 
ما هو الوطن؟ هل هو الأرض؟ أم جملة مترابطة من العناصر تشكل الأرض عنصرًا مهمًا من عناصره؟
 
يقول رب العزة في محكم كتابه :
(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:97].
 
في تفسير هذه الآية، معنىً أظنه صار مرفوضًا، وإن كان الناس يمارسونه مضطرين؛ الهجرة من أرض تُخضعك، وتعيش بين جنباتها استضعافًا، لأرض تُشعرك بالقوة والمنعة على كل المستويات، أولها الإيمان والعبادة وليس أدناها الشعور بالأمن والحرية. وأجد الأمر جليًا في حديث للإمام علي عليه السلام: (خير البلاد ما حملك)! أي أن البلد الّذي يملك أن يحمل همّك وقضاياك وعزّتك وكرامتك وحريتك ودينك، هو خير البلاد.. أي بلد كان!
 
لقد كان الإسلام مستضعفًا في مكة، فهاجر سيد الرسالة إلى المدينة ليقيم دولة قوية، شكلت التاريخ ولا زالت تشكله رغم كل إرهاصات أبنائها. ببحث بسيط عن الهجرة في الإسلام ستجد أنه مما حث عليه الشارع المقدس (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ)[العنكبوت: 56]
 
وهو ما صاغه الشافعي في أبياته:

عجبت لمن يقيم بدار ذل .. وأرض الله واسعة فضاها
فذاك من الرجال قليل عقل .. بليد ليس يدري ماطحاها
فنفسك فز بها إن خفت ضيمًا .. وخلى الدار تنعى من بناها
فإنك واجد أرضًا بأرض .. ونفسك لا تجد نفسًا سواها
مشيناها خطى كتبت علينا .. ومن كتبت عليه خطى مشاها
ومن كانت منيته بأرض .. فليس يموت فى أرض سواها
 
فمن أين جاءت مفردة الوطن؟ ما هو الوطن؟ هل هو الأرض؟ أم جملة مترابطة من العناصر تشكل الأرض عنصرًا مهمًا من عناصره؟!!!
 
يقال أن الإنسان كائنٌ اجتماعي، أي أنه لا يقوى على العيش منفردًا منعزلًا، فيحتاج لبني جلدته، يعيش بينهم، يتزاوج ويتعامل ويتفكر معهم وبهم ومن أجلهم، ولذلك خلق الإنسان سلسلة من العلاقات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، نظمها الشارع المقدس ليتكون من خلالها (المجتمع).. وأجد أن الوطن هو المجتمع الذي بناه الإنسان، والشعور بالانتماء قد يكون شعور بالانتماء لهذا المجتمع، صاحب العقيدة والعادات والأفكار والتاريخ المشترك، وقد تكون الرقعة الجغرافية التي يقع عليها هذا المجتمع، عنصرًا مهمًا من عناصر الانتماء، لكني بدأت أشك أن يكون هو العنصر الأساسي!
 
ربما تختلفون معي كثيرًا، وربما أختلف اليوم مع نفسي بالأمس بينما أبحث عن مفردة (وطن) لأجده أحيانًا سجن يكبلنا فيه من يريد عبر وثائق تافهه يمنحونا إياها صباحًا ليسلبونا إياها مساءً متى استدعت الحاجة لكسر إرادتنا وعزيمتنا!
 
إنما الوطن هو نحن متى ما بنينا وطنًا قويًا، يتمكن من احتوائنا والانتصار لقيمنا ومبادئنا، كنا وطنًا واحدًا من المحيط إلى الخليج، نشكل ثقافات متعددة، فبحراني وبصراوي وحجازي وشامي، يفخر كل صاحب ثقافة بثقافته على سبيل التعدد والتمايز، دون وثائق تسلبنا الحب لكل الأرض!
 
نعم أحب وطني .. لكن كل الأرض إن شئنا لنا وطنًا!


7 فبراير 2015

No comments:

Post a Comment