Friday, February 27, 2015

القوة.. ليست عضلات // إيمان الحبيشي

 
 
تحدثت في مقال سابق عن نظرة الإنسان العربي للقوة(1)، واختزاله إياها في القوة البدنية والعسكرية، منذ ما قبل الإسلام حتى اليوم، وهو ما قد يفسر حالة القمع المزمن الذي تعيشه المجتمعات العربية والإسلامية بقوة السلاح والنار.
 
على مدى العقود الفائته، يتضح للمتتبع لحال الأوطان العربية والإسلامية، أنَّ الحكم فيها دائمًا كان بقوة السلاح، ومتى ما ثار على الحكم آخرون، فإنهم غالبًا يثورون بقوة السلاح أيضًا، فيستبدلون سلطة حكمتهم بالنار، بسلطة أخرى لتحكمهم بالنار كذلك.. وغالبًا ما وقعت هذه السلطة بذات الظلم الذي وقعت به سابقتها.
 
وهكذا كانت ولا زالت الشعوب العربية، تعيش في دوامة الظلم والقوة والنار والبطش، لا تنتهي من ظلم إلا وقعت في ظلم آخر. واليوم نحن المجتمعات التي أنتجها التاريخ العربي الدامي، مجتمعات خاضعة لقوى لا تمتلك أمامها رأيًا ولا كرامة، وحتى امتلاك القوة العسكرية صار متعذرًا عليها، فصار السؤال الذي يراود كثيرون: حتى متى سنبقى شعوبًا مضطهدة مسلوبة الإرادة والكرامة؟ والإجابة في اعتقادي لا يملكها السلاح.
 
يقال أنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وهو بحسب ما أرى ليس سوى قول ساذج صار كثيرون يتداولونه ويرددونه مسلَّمين بما فيه، على اعتبار أن هزيمة الشيء لا تأتي إلا من جنسه، إلا أن الطبيعة تكشف لنا خطأ مثل هذا المثل، فالصخرة الصماء تتفتت حتى تستحيل لرمل تذروه الرياح بفعل قطرات الماء الناعمة، إذا ما بقت تنخر فيها مدة. وكم من مباني ضخمة أضعفها تغلغل الرطوبة في هيكلها. كما أن العالِم بالكون ومن فيه يقول في كتابه الكريم (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)(2) في إشارة واضحة على أن السيئة تدفعها حسنة لا سيئة من جنسها.
 
نعم إن القوة البدنية والعسكرية، عامل من العوامل المهمة في كل المجتمعات، وقد ذكرت في المقال السابق بعض الإشارات الواضحة في حث الإسلام على امتلاك الفرد والمجتمع المسلم لوسائل القوة البدنية والعسكرية، لكن السؤال: إذا تعذرت القوة العسكرية على مجتمعات تعاني القهر والظلم فهل يعني ذلك أن تتوقف عندها وتستسلم لها؟ وإن حصلت تلك المجتمعات على تلك القوة فهل يعني أن تتوقف عندها؟
 
منذ حوالي سبعين سنة وبالتحديد في عام 1945م ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين ذريتين على مدينتي هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين، أدت لمقتل 140 ألف إنسان في المدينة الأولى وحوالي 70 ألف إنسان في المدينة الثانية، إذ قضت القنبلتان على كل أشكال الحياة في تلك المدينتين، بل استمر أثر القنبلتين حتى يومنا هذا، إذ أن الإشعاعات المنبعثة منهما تسببت بحالات سرطان عديدة بين أبناء تلك المدن. وقد توقع العلماء آنذاك بأن تتوقف الحياة النباتية لمدة سبعين سنة على الأقل. أدى الانفجار النووي في اليابان لاستسلام حكومتها وبالتالي احتلالها لمدة ستة أعوام من قبل الأمريكان، ونتج عن هذا الاحتلال كوارث إنسانية أخرى منها ارتفاع عدد الولادات الغير شرعية التي تسبب بها الجنود الأمريكيين.(3)





هيروشيما قبل وقوع القنبلة

هيروشيما بعد وقوع القنبلة
مدينة ناكازاكي قبل وبعد وقع القنبلة
لقد نهضت مدينتا هيروشيما وناكازاكي مرة أخرى وبشكل لا يمكن توقعه، والحياة النباتية التي توقع العلماء أن تغادرهما لمدة سبعين سنة على الأقل، عادت قبل ذلك بكثير إذ وبسبب إصرار أهلها تحول موقع الانفجار في هيروشيما إلى حديقة عامة ونصب تذكاري، إضافة لوجود عدد من أفضل الحدائق فيها. إن الكثير من ضحايا القنبلة النووية في اليابان أو أهلهم صاروا يعملون ضد امتلاك الدول لأسلحة الدمار الشامل، ساعين للسلام على الأرض وهو الاسم الذي صارت تعرف به هيروشيما "مدينة السلام". ما أود أن أشير إليه بهذا المثل، كيف أن اليابان كدولة منكوبة - وهي صاحبة حضارة وتفوق قبل كارثة القنبلة الذرية - سعت لتعود دولة قوية ليس عبر امتلاكها للسلاح النووي الذي يعارض أهل البلد نفسها امتلاكه، وليس عبر محاولة الرد بمثل ما حوربت به، بل عبر التنمية الاقتصادية والزراعية والاجتماعية والثقافية التي عملت على اكتسابها، لتكون بعد أقل من سبعين سنة من تلك الكارثة، في مصاف الدول الأكثر تطورًا!
 
في أحد المقالات المثيرة التي قرأتها حول نهضة اليابان بعد كارثة القنبلة النووية (4)، أشار كاتبها إلى أن اليابان بدأت نهضتها الحقيقية مع ثورة الميجي عام 1886م (5) وكانت القيم الأساسية لتلك الثورة تتمثل في ثلاثة أهداف:

- محو الأمية الأبجدية
- الحفاظ على اللغة الأم مع برنامج علمي ضخم قائم على الترجمة
- تشجيع البحث العلمي
 
وهذه القيم هي التي نهضت باليابان مجددًا بعد الكارثة، إذ يذكر نفس الكاتب أن اليابان وبعد استسلامها المذل قررت إرسال مبتعثين لكل العالم يحملون تساؤلات علمية، عادوا لها محملين باكتشافات مذهلة، كما أنها قضت على الأمية بين أبنائها، وصارت تملك خططًا تنموية واقتصادية! كل ذلك عبر امتلاكها لقوة من نوع آخر هي "قوة العلم" بما يحويه من قوة البحث وقوة التفكير الحر وقوة العقل البشري إذا ما وُظف بالطريقة الصحيحة ولأهداف بعيدة المدى، حتى تتحقق قوة ثانية تكون وسيلة هي قوة الثروة، لتمتلك بعد ذلك قوة في غاية الأهمية هي القوة العسكرية.
 
فأين نحن من صناعة مجتمع قوي، أهدافه بعيدة المدى، واضحة لكل الأجيال؟


28 فبراير 2015
___________________________________________________ 
(1) المقال السابق بعنوان :المؤمن القوي خير.. حقًا
http://ertiqabh.blogspot.com/2015/02/blog-post_20.html

(2) سورة فصلت الآية 34
(3) للاطلاع على بعض آثار القنبلتين الذريتين: http://ertiqabh.blogspot.com/2015/02/blog-post_20.html
(4) مقال مفيد بعنوان: قصة تفوق أمريكا واليابان : http://www.4nahda.com/article/424
(5) نسبة إلى الإمبراطور الشاب ميتسوهيتو (ميجي) الذي اعتلى عرش اليابان عام 1868م، وقد مثل حكمه بدء عهد النهضة الحديثة "نهضة عهد الميجي" والتي سميت بثورة الميجي نظرًا لما حققته من إنجازات وإصلاحات.

No comments:

Post a Comment