Friday, February 13, 2015

إحساسُ الزّهور (١) // محمود سهلان

 
 
في ذلك المجتمع المُرهَق، عاشت تلك العائلة المُعدَمة، فازهرت وردةً تشعّ براءةً، أضافتها لورودٍ وزهورٍ أخرى، قد ملأت ذلك المجتمع، وتوزَّعت في أرجائه، فصيَّرته بستانًا زاهيًا.
 
في مجتمعٍ كان يعاني أصنافًا عديدةً من الحرمان والتهميش..
 
فبالكادِ يحصلُ الكثير من أبنائه على ما يسدّ حاجتَهم من الطّعام والشّراب، ولا يحصلون على أبسط الخدمات والمرافق التي يحتاجونها، حتّى الكهرباء ـ في ذلك البلدِ المتعدّد الموارد - تذهب أحيانًا، فيذهب معها الأمل، لكنّه يعود، لأنّه نورٌ متجددٌ في قلوب هؤلاء.
 
أمّا المدارس والجامعات، فلا ذِكرَ لها في تلك البقعة..
 
جاءتْ بشرى لعائلةٍ تتكوّن من زوجين، وطفلين، كانت هي خامستهم جميعًا، لتعيش على وقع المعاناة، فوالدها بلغَ من العمر ما بلغ، وليسَ له سوى دخل بسيط لا يكادُ يفي باحتياجات العائلة، يجنيه من بسطةِ الخُضار والفواكه كلَّ صباح، لينفقَهُ على الحاجات الأساسية فقط، فلا مجالَ لغير ذلك، أمّا أمّها فتدير أمورَ المنزل الآيل للسّقوط، وأمورَ أفرادِ العائلة، وتُربِّي أولادَها حسبَ أصولِ تلك البقعة وعاداتها.
 
أمّا الولدَين، وإنْ كانا أكبرَ منها، إلا أنّ الأكبرَ أتمّ العاشرة، والأصغرَ أكمل السّابعة من عمره.
 
بدأت الأيامُ تأكلُ في عمرِ تلك الزهرةِ المشرقة، ولكنّها كانت تغذّيها إحساسًا، ومسؤوليةً، وخبرةً في الحياة، مع كلّ لحظة تمرّ من حياتها.
 
اجتمعَ الناسُ على رجلٍ وقع على الأرضِ وسط السّوق، وحاولوا بكلّ رأفةٍ وحنين إنعاشَه، لكنّ نَفَسَه بدأَ يخفت، ولسوء الحظِّ فلا يوجد أيّ مستشفى قريبٍ ينقلونه إليه، وسيارةُ الإسعاف بطيئةٌ بكلِّ سرعتها، فإنّها وصلتْ بعد قطعِ مسافةٍ طويلة، لتنتشلَ جثّة هامدة، لتعيدَها للقبر لاحقًا ليس إلا، فإنّ الموتَ كان أسرع..
 
إنّه القدرُ الذي لا مفرَّ منه، رحلَ الحاجُّ أحمد تاركًا خلفَه عائلةً لم تشبعْ بعدْ من حنانِه وعطائِه، مخلِّفًا عياله بحمايةِ ونظرِ الخبيرِ القدير، ومخلِّفًا ثقلَه على ابنه الأكبر محمّد، ليتحمَّل عِبأَ العائلة.
 
انطلق محمدُ ـ يساندُه أخوه علي - ليخلفَ والدَه الذي قضى نحبه بعد توقُّفِ قلبه فجأة، ليحملَ ثقلًا كبيرًا، قد هيّأه والدُه لحمله يومًا مّا، وقد حان هذا اليوم، فالعائلة تعتمدُ على جهوده وهمّته التي ورثَها عن أبيه، لتُكملَ المشوارَ في هذه الحياةِ الصّعبة.
 
في أحدِ الأيّام جلس محمدٌ مع أخيه علي وسطَ السّوق كعادتهما، لكنّ ضيفًا جديدًا زارَهُم هذه المرّة، يحمل حقيبةً على ظهرِه، ويحملُ وريقاتٍ في يده، يعرضُها على هذا وذاك من روّادِ السّوق وزوّاره، إلا أنّه لم يجدْ تجاوبًا مقبولًا منهم، وبينما هو يتجوّل مرّ ببسطتِهما، فالتفتَ له محمّدُ وسلّم عليه، ثم بادرَه قائلًا:
 
يا عم، ماذا تحملُ بينَ يديك؟
بائعُ الصّحف: إنّها بعضُ الصُّحف والمجلّات يا بُنَي.
محمد: هل لي أنْ أطّلِع عليها؟
بائع الصحف: بكلِّ سرورٍ يا بني.
 
اطلعَ محمدُ على ما يحمله البائعُ معه، فأعجبته مجلّةٌ بعنوان (الفكرُ الواعي)، فاشتراها ليتسلّى بها في فتراتِ الفراغِ التي تمرُ عليه في السّوق، وكذلك بالمنزل، وما أكثرها..
 
ما إنْ بدأ بالمطالعَة، حتّى قطعَ شوطًا يتنقّلُ بين صفحاتها وعناوينها، وإذا بأحدِ العناوين يستحوذُ عليه بشكلٍ تام..
 
ألقاكم في الجزء القادم بإذن الله
 
 
14 فبراير 2015

No comments:

Post a Comment