Friday, February 6, 2015

فـــي بيتنا عـــزباء // أبو مقداد

 

تبدأُ بسلوكٍ مُخَتَلفٍ عَمَّا يَعَتادهُ النَّاسُ فِي المُجْتَمَع، بالطَّبعِ ستكونُ شاذًّا عنهُم، فَيُستَهجنُ السُّلوك، وبِما أنَّ مجتمعاتنا تُحبُّ تِكرارَ المَورُوثَاتِ، والالتزَامُ بِما تَنُصُّ عليهِ قُيودُ العَاداتِ والتَّقالِيد بِحذافِيرِها، وأيَّ مُحاولةٍ لمناقشتها / تغييرها / تقييمها يُعتَبرُ تَجاوُزًا للخُطوطِ الحمْرَاء، فإنَّهُ – على الأغلبِ – سَيُرفَضُ هذا السلوك الجديد لأنهُ مُنحَرِفٌ دخيلٌ. مُقاومَةٌ شرِسَةٌ قَد يُواجِهها أي سلوكٍ طارئٍ على المُجتمع، بغض النَّظرِ إن كانَ صحيحًا في أَصلِهِ أم فاسدًا، فالمعيارُ لِمُحاربتهِ هوَ أن يكونَ لا يتَماشَى مَعَ ما نملكُهُ من مَوروثَات، كـ أن ترفضَ سُلوكًا اعتَادَ الآباءُ على تَربيةِ أَبنَائِهِمْ عَلَيه، أو أن تبتكِرَ طَرِيقَةً بَدِيلَةً عَما اعتَادَت عليهِ الأُمَّهات في تَرْبيةِ الأَبنَاء، فَمَن يَجرُؤ - مَثلًا - على رَفضِ القِماطِ كـَ ثابتٍ يُعتقَلُ فيهِ الطفلُ من أول يومٍ في حياتِهِ بِحُجَّةِ تقوِيَةِ عِظامِ الطِّفل؟!
 
وبِطَبِيعةِ الحَالِ فإنَّ هناكَ بعضُ السُّلوكِيَّاتِ الجديدِة التِّي قَد تَمرُّ دونَ أن تُجمرك اجتماعِيًّا، رُبما لأنَّها قَرِيبةٌ من ثقافةِ المُجتمع، أو لا تتعارضُ معها، أو رُبما لأنه كانَ يتمنَّاها.. فبادرَ بها أحد.
 
الانغلاقُ هذا على ما ورِثناهُ من الجيلِ السّابِق، وتورِيثهُ للجيلِ الَّلاحق، سَيجعَلنا أمّةً جامِدة، وفي تكرارِ نفسها رائِدة، ومياهُ تطوُّرها وتقدُّمها راكِدَة، فالبَحرُ الرَّهو يَحتاجُ لعاصِفةٍ تُنعِشه، والتربُ الخَصبُ يحتاجُ لِحارثٍ يقلّبُه، كذلكَ المُجتمعُ يَحتاجُ لعقولٍ تُنيرُه، وأفكارٍ تُثيرَه، ليستمرَّ في الحياةِ والازدهارِ والارتقاء.
 
أنْ نقبلَ ما وجَدنا عليهِ آباءنا الأوّلينَ (فقط) لأنَّا وجدناهُم عليه، يعنِي أن نَستنسِخَ كلَّ تجربتهِم، وحياتهِم، بنجاحِها وفشلِها، بمميِّزاتها ونواقِصِها، وأن نَعيشَ في عامٍ مُتقدِّمٍ بالطريقةِ الّتي عاشوا فيها فِي زمنٍ قديم!
 
طبعًا السُّؤالُ القَافِزُ فَورَ الحَدِيثِ عن هّذهِ المواضيع هوَ: هَل نَنوِي القضَاءَ على كلِّ الموروثَاتِ والعادات والتَّقاليد والأعراف التي تربَّينها عليها؟ والتي تُشكّل أصالتنا وهويَّتنا وكياننا الاجتماعي؟
 
والإجابةُ بضرسِ قاطعِ هِي (لا).
 
فأنا أكتبُ مَقالِي هذا وأنا أؤمنُ بضرورةِ التمسُّكِ بأصَالتِنا وكلّ ما يُشكلُ هَويتَنَا ونَحَافِظُ عَليهَا من لهجةٍ ولباسٍ وسًلوكٍ وغيره، إنَّما دَعوَتِي من خلال هذا المقال هي: أن نُخضِعَ ما نَرثُهُ لآلةِ التقييمِ والمُراجعة ونعرضها عليه، فإن احتجنا لتصحيحهِ صحَّحناه، وإن احتجنا لتغييرهِ غيَّرناه، وإن كانَ صالحًا للاستمرارِ.. يستمر.
 
المغالطةُ الّتي نعاني منها فِي الكَثِيرِ مِن مُجتَمَعاتِنَا، هِي أننا نرفضُ الكثِيرَ منَ السُّلوكِيَّاتِ والأفكار التَّصحيحيَّةِ لِتغييرِ الظواهِر الاجتِماعيّة غيرِ الصحِيحة ونُحارِبُها، ونزعمُ بأنَّ تطبيقَها غير مُمكِن، فِي الوَقتِ الذي نَسْمحُ فيهِ لأدواتِ الغَزوِ الثقَافِي أن تَختَرِقنا، بدرجةٍ قَد تغيِّرُ ما نخشى من تغييرهِ بصورةٍ تدريجية بطيئة، فنَكونُ قد سمحنَا للإفسادِ في الوقت الذي عطَّلنا فيهِ مساعِي التصحيح!
 
وأطرَحُ مِثالًا - وليسمح لي القارِئ - اخترتُ أن أطرحهُ في سياقِ المقالِ عوضًا عن طرحهِ في موضوعٍ منفصلٍ، و لأركِّزَ عليه هنا لما أرى فيه من ضرورةٍ ومشكلةٍ حقيقيةٍ نحتَاجُ لأنْ نُعالِجها.
 
في مسألة الخِطبةِ والزَّواج، المُتعارفُ عليهِ فِي مُجتمعاتنا، هوَ أن تبحَثَ الأمُّ لابنِها عن البنتِ المناسبة التِي تجدُ فيها أفضلَ المواصفاتِ والتي تَصلحُ لأن تكونَ زوجَةً لابنها وتختارُها بِعنايةٍ وحذر، فهذا ابنُها وفلذة كبِدها التي تعِبت في تربيتِه.. لن تُفرِّطَ فيه.
 
حسَنًا أيتها الأمّ الحنُون.. لِمَ لا تحاولينَ الاجتهادَ في البحثِ أيضًا عن زوجٍ لابنتكِ المصُون، والتي تعبتِ في تربيتها أيضًا وبالتأكيدِ تتمنَّين لها الخير؟ وتكتفينَ بانتظارِ خاطبٍ يتقدَّمُ لها، لا تعرفونَه في الغالِب، وتقبلونَ الخطبةَ متمنينَ أن يكونَ هذا الرَّجل صالحًا كما قالَ عنهُ الناس حينَ سألتم عنه، وأن يطابقَ فعلُهُ قولَه في المقابلةِ التي لم تستغرق نصف ساعة بينه وبين ابنتك!!
 
هنا ندخلُ في جدلياتِ عديدةُ فالأمُّ تخجلُ من أن تُصرِّحَ بأن لديها في البيتِ ابنةٌ في عمرِ الزواجِ، حتى لو جاءت (فلانةٌ) وسألتها عن إن كانت تعرفُ بنتًا تصلحُ لابنها ليتزوجها، فهي لَن تُشيرُ لابنتها أبدًا، حتى لا يُقال بأنَّ الأم تُروِّجُ لابنتها كسلعةٍ رخيصة،ٍ وبالفعلِ لو فعلت، لقيلَ عنها: "عفر إلا بتها طايحه في حظها وتبي تمشِّيها"، وأبوها يخشى من المجتمع من أن يشيرَ لابنتِهِ وكذلكَ الأخ والأخت، ولنفس السبب.
والمصيبةُ الأكبر في نظرِي، أن ترفضَ البنت أن يشيرَ لها أيَّ فردٍ من أسرتها ولنفس الأسباب السَّمِجة والتافهة.
 
السؤالُ هنا: ماذا لو تقدَّم لخطبةِ الفتاةِ، عددٌ من الشَّباب، - على سبيل الاحتمال - جميعهم لم يصلُحوا لها لِعيبٍ فيهم؟ طبعًا ستكونُ البنتُ بينَ خيارين:

1- إمَّا أنْ تقبلَ واحدًا منهُم، وهي تعلمُ بأنَّهُ لا يصلُح أن يكونَ زوجًا لها، فتصبر عليه أو تفقدُ صبرَها وتعودُ لمنزل والدها مُطلَّقة.
2- أو أنها سترفضهم جميعهم، فينظر لها المجتمع بتلك النظرةِ المشفقة (مسكينة عنست)!!
 
سواء أعادت مُطلَّقةً أم ظلّت بِلا زواج، سأسألكم: مَن السَّبب؟!
 
طبعًا هنا ستُفعّلُ إجاباتُ الشفقة والمواساة، بأنَّهُ "قضاء وقدر، وكل وحده ما تاخذ إلا زرقها، وعسى عن صلاح يا بنتي" ويتحملُ (اللهَ) عزَّ وجلَّ المسؤوليةَ الكاملةَ حينَ أخلى الأهلُ مسؤوليتَهم لما صنعُوهُ في البنتِ أو ما صنعتهُ هيَ في نفسها، بالرغمِ من أنَّه ليسَ من ضمن تشريعات السماء، أنه يُحرَمُ أو يُكرَه، أن تطلبَ البنتُ زوجًا لها، فضلًا عن أن يطلبهُ لها أبوها، أو أن تطلبهُ أمها.
 
إلاّ أن الأهالي يرفضونَ الحديث في موضوعٍ كهذا، وقد يُعتبرُ قلَّة أدب؛ إذًا فهذهِ تشريعاتُ المجتمعِ وعُرْفه، والموروثاتُ التي تربينا عليها، لا يمكن أن نعبث فيها!!
 
في زمنِ الانفتاحِ الأخير، صار مقبولًا إلى حدٍّ ما أن يأتي الولدُ لأهلهِ، ويخبرهم عن الفتاةِ التي ينوي أن يتزوَّجها، دُونَ أن يُسأل حتَّى عن علاقتهِ بها أو مِن أينَ يعرفها، وإن رُفضَ هذا الأُسلوبُ في بدايتِهِ؛ إلا أنه سرعانَ ما صار أمرًا طبيعيًّا ومقبولًا، وهو الذي يُعدُّ انحرافًا وتجاوزًا كبيرًا في عُرفِ الجيلِ السابقِ وما قبله، ولكن حينَ نتحدثُ عن محاولةِ تصحيحِ قضيةَ الخطبةِ التي ذكرناها في المثال السابِقِ، فإننا سنصطدمُ بجُدُرِ المُستحيلات التي لا يمكن ممارستها، وسيقفُ المجتمعُ بالمرصادِ لتشويهِ سمعةِ من يحاول، وينعتهُ بالسوء!!
 
المقبلات على الزواج، قَدْ يَتَمَنَّيْنَ ما أدعُو له الآن من خلالِ هذا المقال، وقد يُؤمِنَّ بِهِ أَكْثَرَ مِنِّي، ولكنهنَّ سَيَحْرِصْنَ على أن تكونَ هذهِ الأُمنِيةُ والإيمانُ سِرًّا بينَهُنَّ وبَينَ أنفَسِهِنَّ فَقَط، فالبَوحُ بهِ، يعني إما أن تكون البنتُ قليلةَ أدبٍ وتربية، أو أنها تعرضَ نفسها كسلعةٍ بثمنٍ بخس، فكل واحدةٍ منهنَّ تنتظِرَ نصيبَها، وتدعو بأن يتغيرُ هذا العرفً البائِسُ سرِيعًا، وأن لا تكونَ هي ضحية تغييره!
 
هذا مثالٌ على صعوبةِ تغييرِ عُرفٍ ما، توارثهُ المجتمعُ، واعتاد عليه، وإن تأثر الجميعُ من سوئهِ، إلا أن هذا ما وجدنا عليه آباءنا الأولين!
 
بالطبعِ هذا التغيِير يحتاجُ لتثقيفٍ خاص، بالإضافةِ لمبادرةٍ فرديةٍ وجماعيَّة، وكعادتهِ المجتمع قد يَستَهجنُ في بادئ الأمرِ أن يتقبَّل أمرًا لم يعتد عليه، ولكن مع التثقيفِ والمبادرة والإصرار، كما أن السلوك هذا -  صالحٌ كان أم فاسِد - و لو لم يُتَقَبَّلُ في بادئ أمره، إلا أنه مع الإصرار عليه وشيوعه قد يتحول لعادةٍ تُمارس، ثم يتحولُ من عادةٍ لِظاهرة، حتى تتحول في نهاية الأمرِ لعرفِ المجتمع الذي سيتربى عليهِ الجيلُ القادِم، ليكونَ بالنسبة لهُم (عادات وتقاليد)!
 
أختمُ بسؤالٍ، هل مثلما نسمحُ للعادات غير الصَّحيحة أن تخترقنَا وتَتَمَكَّن مِنَّا، نفكِّرُ أيضًا أن نُساهم نحنُ في صناعتها ونتحكم فيها لنصيغها بإرادتنا وكما يدعو له الدين وكما نراهُ صحيحًا؟
 
 
7 فبراير 2015

No comments:

Post a Comment