Wednesday, March 18, 2015

على ضفاف الذكريات (14) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

بعد مضي سنة وأكثر بدى شيئًا فشيئًا يتضح التغيّر على الجالية الشيعية الموجودة في بورتلاند.. كانت النسبة الغالبة منها تتكون من القطيفيين والإحسائيين المبتعثين من أرامكو، لكن تلك النسبة أمست في أفولٍ نهاية الثمانينات بتوقف الابتعاث من هذه الشركة.. وبتخرّج الدفعة تلو الدفعة بدى واضحًا أن الجالية تنحو نحو التغيير المحتم.. السياسة الطائفية التي اتخذتها السعودية أدت إلى انخفاض معدل الشيعة المبتعثين من المنطقة الشرقية وارتفع معدل غيرهم.. ومع هذا التغيير إلا أن القطيفيين واصلوا القدوم إلى منطقتنا للدراسة ولكن بأعداد قليلة، كان الفارق أنهم قدِموا على حسابهم الخاص أملًا في تحصيل بعثة من السفارة بعد حصولهم على قبول من الجامعة، وكان معظمهم من فئة العزاب. من ضمن الأوائل هو نبيل من قرية القديح في القطيف الذي تكوّنت معه علاقة زمالة وصداقة منذ اللحظات الأولى..
 
من المواقف التي ظلت معي كاشفة عن بعض أخلاقيات المجتمع الأمريكي أنه ذات ليلة بعد منتصف الليل بثلاث ساعات كنا راجعين من عند أحد الأصدقاء في مدينة مانموث (مدينة تبعد قرابة الساعة عن مدينتنا).. كان الجو ممطرًا والرؤية معتمة، وإذا بالسيارة تنحرف بصورة مفاجئة وتصطدم بالجدار الذي يفصل الهايوي.. كنتُ السائق لسيارة نبيل، ونبيل معي.. لم أُصب إلا ببعض الرضوض الطفيفة إذ كنتُ لابسًا حزام السلامة، وتلك كانت صدفة علّمتني أهمية هذا الحزام، فقبل دقائق كنّا عند محطة البنزين وحين استعدادنا للرحيل وبدون أدنى تفكير لبستُ حزام السلامة، ولم يكن الحزام في ذلك الوقت إلزاميًا، أما نبيل فلم يستخدمه.. وفي أثناء الحادث ارتطم وجه نبيل بالزجاجة الأمامية للسيارة. 

التفتُ إلى نبيل وإذا بوجه يشخب دماءًا، وفي تلك الحالة أوجمتُ أنظر في وجهه، بينما بادرني سريعًا بضرورة الخروج من السيارة..

خرجنا من السيارة ووقفنا على حافة الهايوي، وظلّت السيارة واقفة في منتصفه.. كان الشارع يحوي مرتفعات ومنخفضات، ومكان الحادث يكاد يكون غير مرئيًا للسيارات القادمة.. كان الشارع خاليًا من الحركة في تلك الساعة، وإذا بسيارة بيك أب قادمة مسرعة وقدّر الله أن لا تصطدم بسيارة نبيل.. بمهارة فائقة تجنب سائق البيك أب الارتطام بسيارة نبيل وأوقف سيارته على عجلٍ بعد عدة أمتار، وأرجعها أمام سيارتنا وأشعل إشارات الخطر في سيارته لكي ينبه السيارات القادمة.. بعد دقائق قليلة توقفت سيارة أخرى لتطلع على الحادث، وعندما رأى صاحب السيارة نبيل بهذه الحالة، حمله في سيارته وأوصله إلى المستشفى.. كل ذلك حدث في دقائق قليلة قبل أن تأتي سيارات الشرطة والإسعاف والحريق، والتي لم تتأخر في الحضور لمكان الحادث.. بسرعة تم تطويق السيارة والاتصال بسيارة السحب ليتم سحب سيارة نبيل إلى مكان سحب السيارات..


تُرى ما الذي يدفع بالأمريكي في ساعة متأخرة من الوقت والمطر يهطل لأن يتوقف ويقوم بمساعدة أفراد غرباء عنه، وهو نفسه الذي إذا جاورته ولسنين ربما لا تعرف حتى اسمه!  

ذهبت للمستشفى بعد ذلك لأرى نبيل وقد تم تخييط شفته العلوية إذ الارتطام سبب شقًا فيها وقد تم تسميته على إثر هذه الحادثة بالأشرم..

بعد فترة قصيرة قررتُ أن أسكن بالقرب من الكلية التي أدرس فيها "كلية كلارك".. وكان السبب الرئيسي هو القرب من مكان الدراسة.. كان القرار صعبًا حيث أن ذلك يعني انقطاعي عن مكان تواجد الأصدقاء والمركز الإسلامي، إلا أنني في تلك الفترة كنتُ على استعداد أن أسكن لوحدي.. كنتُ أريد أن أعيش مستقلًا.. أتذكر أحد الأصدقاء الذين جاؤوا إلى كلية كلارك بعد فترة من دراستي فيها عارضًا فكرة السكن معي فرفضتُ ذلك قائلًا له: "أنا أتهاوش وي روحي، وما لي زاغر روميت".. لا يزال يتذكر "وصفي" تلك الحادثة وقد ذكّرني بها بعد عدة سنوات..

انتقلتُ إلى شقتي في مدينة فانكوفر (شمال مدينة بورتلاند وتبعد عن سكني السابق في مدينة بيفرتون حوالي نصف ساعة) وهي عبارة عن شقة بين عدة شقق، ربما عشر، مصفوفة بالترتيب في الطابق السفلي، وفوقها عشر شقق أخرى.. كان اللافت للنظر هو لون أبواب الشقق البرتقالية.. كان إيجار الشقة حوالي 400 دولارًا شهريًا في ذلك الوقت.. شقة صغيرة تحوي غرفة نوم واحدة، وحمام، ومطبخ وصالة.. تبعد الشقة حوالي عشر دقائق عن الكلية.. 

قمتُ بتأثيث الشقة بأثاث مستخدم لا أتذكر من أين اشتريته، إلا أنني أتذكر أننا كطلاب نقوم بشراء كل ما نحتاجه مستخدمًا من الطلبة الذين على وشك التخرج أو عن طريق "Garage Sale" وهي عملية يقوم بها أصحابها لبيع أغراضهم القديمة بأسعار زهيدة.. وبيع الكراج هو كناية عن الكراج "الطبيلة" في البيت الأمريكي، فالبيت الأمريكي يحوي على كراج للسيارات إلا أنه يستخدم عادة مخزنًا للأغراض الفائضة عن احتياج أصحاب البيت.. وعوضًا عن رميها، يقوم أصحابها بجمع أغراضهم المستخدمة وبيعها، وعادة ما يكون البيع في أيام الويك اند.. فيتم تفريغ الكراج والبيت من الأغراض المستخدمة ويتم وضعها أمام البيت للبيع.. الكثير من الأغراض تُعرض للبيع منها المنضدات والأباجورات وأواني المطبخ والكنبات والثياب وغيرها..

 

كان الهدوء في مدينة فانكوفر مملًا وقاتلًا، وكنتُ دائمًا ما استرق الوقت للذهاب إلى المركز والشباب في مدينة بيفرتون.. لم أكن أحب العزلة، بل أعشق الجو الاجتماعي.. في ليالي كل خميس وجمعة أذهب إلى المركز الإسلامي لدعاء كميل والجلسة الأسبوعية، ونقضي ليالي الويك اند سهرًا، إما في شقة أحد الشباب أو نذهب إلى أحد المطاعم نشرب القهوة ونتناول بعض الحلويات.

في شهر المحرم الحرام لعام 1990، كنّا نحيي لياليه الأولى في المركز الإسلامي حيث يكون البرنامج محاضرة وقراءة حسينية بصوت الملا سعيد المعاتيق، فلطميات، ثم وجبة العشاء.. وفي ليلة التاسع والعاشر يتم حجز قاعة كبيرة في نفس المجمع الذي فيه المركز نظرًا لكثرة الحضور.. أتذكر جيدًا ليلة العاشر لذلك العام، إذ بعد انتهاء البرنامج كنتُ داعيًا بعض الأصدقاء في شقتي من ضمنهم عباس من الكويت.. بعد ختام برنامج ليلة عاشوراء وبينما الفوضى قائمة نسلّم على بعضنا البعض ونتداول أطراف الحديث، وكنتُ على عجلة للخروج من المجمع لكي استقبل الأصدقاء في شقتي، سمعتُ خبرَ دخول صدام حسين على الكويت.. فجأة راودت ذهني كلمة الوالد يرحمه الله "الظالم جندٌ من جنودي أنتقم به، وأنتقم منه".. كلمة كررها طوال أعوام الحرب العراقية الإيرانية بسبب دعم دول الخليج لصدام حسين في حربه ضد الجمهورية الإسلامية، وخصوصًا الكويت..
Military helicopters over a cityغزو الكويت
خرجتُ متوجهًا إلى فانكوفر.. جاء الأصدقاء ومن بينهم عباس ولم يكن سمع بخبر احتلال الكويت.. فتحتُ التلفاز وكان خبر الاحتلال متصدرًا النشرة الإخبارية.. بمجرد أن سمع عباسُ الخبر تغيّرت حالته ولم يستطع أن يمكث معنا، فاعتذر وخرج إلى بيته في مدينة بيفرتون.. كنتُ قلقًا عليه، فاعتذرتُ من الأصدقاء ولحقته بسيارتي إلى أن وصل بيته سالمًا، وطفقتُ بعدها راجعًا تدور في ذهني شتى الأفكار.. ما هو مستقبل الكويت! وكيف سيصبح شعبها محتلًا من قِبل صدام، وصدام مجرم لم يرتدع عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه! كيف سيكون حال الطلبة الكويتيين! كيف سيكون حال صديقي عباس!! وبينما أسبح في عالم تساؤلاتي وإذا بأنوار شرطة المرور من خلفي وذلك قبل وصولي الجسر الفاصل بين مدينة بورتلاند وفانكوفر بمسافة بسيطة جدًا.. تم إيقافي من قبل المرور بسبب تعدّي السرعة.. جاءني الشرطي وسألني عن سبب السرعة، فأخبرته باحتلال الكويت فقال أنه للتو سمع بالخبر.. تعاطف معي الشرطي وحثني على الالتزام بالسرعة المحددة ولم يحرر لي مخالفة.

احتل صدام حسين الكويت في الساعات الأولى من 2 أغسطس 1990 يوم العاشر من محرم 1411 هـ، وأعلن الكويت المحافظة رقم 19 لتبدأ مرحلة جديدة من التشكيل لمنطقة الشرق الأوسط التي تأثرنا بأحداثها وتداعياتها في الغرب. كنتُ أقرأ مقالًا في الجريدة يومًا من أيام احتلال الكويت عن استفسار سفيرة الولايات المتحدة في العراق - إبريل كلاسبي - للقيادة العليا العراقية عن الاستعدادات العسكرية في حشد القوات العراقية قرب الحدود، حينها قالت السفيرة أن واشنطن لا رأي لها في الخلاف العربي-العربي، وأنها لا تتعامل بمبدأ المواجهة بل تعتمد الصداقة في علاقاتها. مما اعتبرته القيادة العراقية ضوءًا أخضرًا للاحتلال، في حين أن الأمر لم يكن إلا إغراءً لصدام لاحتلال الكويت ليتم فيها صيده وتقليص أجنحته...




البداية:

فئة قليلة، منبوذة، لهم مكانهم الخاص بهم الذي يقيمون فيه أنشطتهم.. نعرفهم بكناهم (أبو مصطفى، أبو جمانة، أبو..، أبو..)، ونتعامل معهم بحذر حتى في السلام.. إنهم شيعة مثلنا ولكن.. إنهم الشيرازيون... 


يتبع في الحلقة القادمة..

 
14 مارس 2015

No comments:

Post a Comment