Friday, March 6, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (19) - "مناقشات وردود (10)/ البعد (الواقعي) في النظرية الشيوعيَّة" // محمد علي العلوي

 
 
من المُهِمِّ أن نشير إلى أنَّ النظرية الشيوعيَّة وفي مختلف مراحل تطورها الأولى، كانت في الحقيقة نتاجًا لمجموعة هائلة من جولات العصف الذهني الذي صنعته مثيلاتها من النقود بين عدد من الفلاسفة الذين اختاروا لأنفسهم اسم (الشبان الهيجليين)، وبالرغم من سيطرة المثالية الهيجلية على أجواء النقد، إلا إنَّ كارل ماركس تمكن من كسر الحاجز والانتقال بالطرحة الفلسفية إلى ميدان جديد رفع فيه شِعارَ النظر الواقعي المحسوس، ورفض كل ما (يُدَّعى) وقوعه في الما وراء.
 
من هنا، انطلق كارل ماركس فقرَّبَ الفكرةَ من النفوس الميَّالة للمحسوس، وخصوصًا مع الدليل التجريبي وقوة الحاكمية للمشاهدات العينيَّة..
 
لم تتوقف الصراعات بين بني البشر، ولم يُعهَد زمن ساد فيه السلام والأمان بين الناس، بل (الواقع) إنَّه كُلَّما خبت نارٌ اشتعلت أخرى، وكُلَّما راق مجتمع، فهو متبوع بعاصفة تأتي عالِيَه سافِلَه.
 
وجه كارل ماركس إلى أنَّ دور الفيلسوف لا ينبغي أن يخرج عن حدود تفسير هذه الحالة المستمرة في المجتمع البشري، فالإنسان في نظر شترنر متمحور حول الأنا، مرتكز عليها، يدور في فلكها، ولذلك فهو يرى كُلَّ قيد يُفرض على الإنسان، لا يمكن أن يكون في مصلحته، بل هو عدو مباشر لحريته، وبيانًا يقول: "فالحُرِّيَّة المُشَارُ إليها في دولة المجتمع البرجوازي ليست حُرِّيَّة البَتَّة، وهي لا تعدو أن تكون إطاعة للقوانين، وكُلُّ ما هنالك أنَّ الفرد فيها يكون على صلة مباشرة بالقانون، ويتحرَّر من الأشخاص الذين يتوسطون بينه وبين القانون، تمامًا مثلما حرَّرت البروتستانتية الفرد لا من الالتزامات حيال الله، بل من الكهنة الذين كانوا يقفون بينه وبين الله، فالدولة هي الحرية، وليس أنا، إنَّ حرِّيَّتها عبوديتي، ولكن المذهب الشيوعي لا يمثل هو الآخر انعتاقًا، فهو يلغي الملكية الفردية، أساس عبوديَّة العُمَال، لينيب منابها الملكية الجماعية، فالمجتمع الذي لا مالك غيره يكون مقدَّسًا عندهم، نير الدولة عند الأحرار" (تاريخ الفلسفة، لإيميل برهييه/ ترجمة جورج طرابيشي، ص261).
 
طالما أنَّ المحور في التحليل هو الإنسان، والإنسان فقط، فإنَّ هذا النوع من التفلسف مقبول عند ماركس، وإن كان غير ذلك مضمونًا.
 
يشترك كارل ماركس وشترنر في أنَّ الملكية الفردية أساس لعبودية العمَّال، ولكَنَّ ماركس يُحَكِّم المقابلة، فيقول بالملكية الجماعية مخارجًا علميًّا وحلًّا استراتيجيًّا؛ والسبب هو إنَّ هذا الصراع سببه البين الأناني بين الأنا والأخرى، وهنا يلتقي ماركس مع شترنر أيضًا، إلا أنَّ ماركس يذهب إلى رفع الداعي للصراع، وهو هذا البين الأناني، في حين تقضي فلسفة شترنر إلى تقديس الأنا بكل ما تحمل الكلمة من معنى، ولا يرى حلًّا في غير ذلك.
 
عندما يُقَدِّم ماركس شواهد تاريخيَّة على الصراعات، وأخرى حاضرة، فإنَّه من السهل عليه إرجاع أسبابها إلى الفوارق الطبقيَّة، ثُمَّ إنَّه لا يحتاج لكثير جهدٍ لمواصلة الاستدلال على صحة الحلول التي يطرحها، وما يُسهِّل الأمر الواقعية الخارجية المشهودة لكل ما يتحدَّث عنه، فإنَّ القول عن النار بأنَّها حارقة، لا يستدعي إعمال مقدمات برهانية؛ فهي مشهودة الإحراق بالمشاهدة والتجربة.
 
هذا في ما يخص الواقع الخارجي المُتَحقِّق فعلًا، وهنا أُحَرِّكُ البحث في اتجاه جديد..
إنَّ لأيِّ أمر يقع في الخارج، حالة نشوء متقنة؛ إذ إنَّ هذا الواقع الخارجي عبارة عن أجزاء متفرِّقة تجتمع لعِلَلٍ كثيرة تستقر معلولاتها في معلول واحد بارز، هو الحدث المشهود، فهذا الأخير ليس بالبسيط فننتقل منه إلى عِلَّته دون حاجة إلى تفكيك وتحليل.
وبعبارة أكثر وضوحًا: نحن نرى النار في الخارج، نراها في عنوانها النهائي، وهو في الواقع عنوان مجمل، وإلا فالتفصيل في كل ما يُحدِثُ النار فعلًا، وحتى هذا المُحدِثُ لها يحتاج لما يبقيه مُحدِثًا، وأمَّا ما يقع عليه فعل الإحداث فهو أيضًا مشتمل على هذا التعقيد المتقن حَدَّ إخارج النار في الحالة التي نراها واقعًا خارجٍّا.
 
السؤال الأكثر أهميَّة –في نظري- هو:
أين تقع العِلَّة الصورية للنار؟
 
ولزيادة بيان أقول:
لكل أمر واقع هناك أربع عِلَلٍ رئيسية:
 
الأولى: العِلَّة الفاعليَّة: وهي الفاعل للفعل، كالنجار الفاعل لنجارة الكرسي.
الثانية: العِلَّة الغائيَّة: وهي الدافع على الفعل والإحداث.
الثالثة: العِلَّة المُكَوِّنة: وهي ما يقع عليه فعل التركيب، مثل الخشب للكرسي.
الرابعة: العِلَّة الصورية: وهي التصميم السابق الذي يراد للحدث أن يكون على صورته، كتصميم الكرسي في الذهن أو على الورق قبل صناعته.
 
وسؤالنا حول هذه العِلَّة الصورية، وتحديدًا حول محَلِّها الذي تنقطع عنده السلسلة، وهنا توضيح:
عندما يُفَكِرُ الإنسان بأمر ما، فهو إمَّا أن يعمد لصياغته في معطيات ومقدمات وما نحو ذلك من خطوات النظر العلمي، فيكون في طور رسمه وتصميمه قبل إخراجه على وفق ذلك التصميم، وإمَّا إنَّه يتجاوز التصور العلمي ويطرحه كيفما صدر منه خاضعًا لأيِّ قوة قد تتسلط عليه، عقلية كانت أو نفسانية، وفي كلا الحالتين لا بد من وجود تصميم تخرج الفكرة على وفقه، فإن كان التصميم مصاغًا علميًا، فهذه الصياغة (حَدَثٌ) أيضًا، فيرجع الأمر إلى مربعه الأول، فنبحث عن العِلَّة الصورية لنفس العِلَّة الصورية الحادثة، ويتسلسل الأمر فلا يقع أمر في الخارج ما لم تنتهي السلسلة إلى عِلَّة صورية مستغنية، وحتى لو لم يكن الأمر مصاغًا بشكل منظم، فالحال واحد؛ إذ إنَّ لِكُلِّ حَدَثٍ لا بد من صورة يكون هو معلولًا لها في بعد رئيسي من أبعاد وجوده الخارجي.
 
إذا اتضح الأمر، فإنّنا نطرح أمرين:
الأول: إذا كان الخارج المشهود واقعًا، فهو واقع تدركه الحواس البشرية الأصيلة، ولكِنَّه واقع ثانٍ، هو في حقيقته مَظهَرٌ لواقع أصيل تدركه العقول ولا يكشف عنه غير النظر.
 
الثاني: الإنسان هو المُظهِر الفاعل للصور من ذاك العالم الأعلى، في هذا العالم الأسفل، وهو في أيِّ حركة نظرية ذهنية أو فعلية خارجية يكون أمام مجموعة هائلة ضخمة من الخيارات، وكذلك هو أمام مسؤولية التركيب للعلة الصورية؛ حيث إنَّه بما تتركب منه السكين قد يذبح شاة للفقراء، وقد يذبح إنسانًا، وقد يقطع برتقالة، فهو أمام خيارات بعدد ما يمكن للسكين أن تصنع، بكُلِّها أو ببعض أجزائها، ولكِنَّه في جميع ذلك لا يفعل إلا الإظهار لواقع أعلى.
 
من هنا يَتَّضح أنَّ الواقعية الحقيقية ليست إلا المثالية، وأمَّا ما يُتصور أنَّها واقعية، هي ليست في حقيقتها أكثر من المشهد التمثيلي لسيناريو قد صمَّمه الذهن، سواء علم بذلك أم لم يعلم.
 
عندما نُدَقِّقُ في فلسفة ماركس أو شترنر أو غيرهما، فإنَّنا نقف على قوة فكرية هائلة قيَّدها ما تصوَّرُوه واقِعًا نِهَائِيًّا، وهذا التقييد اقتضى سلب القدرة على تجاوز الخارج الثاني للواقع الأول، فلم يتمكنوا من إرجاع أيِّ معلول لغير الإنسان عقلًا ونفسًا، وهذا ما انعكس علينا بعمق عاصف، وقد أشرنا لبعض الشواهد في مقالات سابقة.
 
مما تقدم، أصل للنتيجة التالية:
كُلُّ خيارات الفعل مطلقًا موجودة وجودًا صوريًّا في عالم أسماه البعض عالم المثال، وأسماه آخرون عالم الحقيقة والواقع، ولا يفعل إنسانٌ فعلًا إلا وهو في مقام استحضار صورة لها واقع هناك، ولكنه يُخرجها من الصورية إلى الواقع الخارجي في هذه الدنيا.
وبذلك، فإنَّ الحتميَّة إنَما هي فباستحالة تَخَلُّف المعلول عن عِلَّته، وهذه العِلَّة لا يُحضرها غير الإنسان، ومن هنا نفهم قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "عُمَّالكم أعمالكم"، وهو من الأحاديث التي ينبغي جعلها في أعلى كبرويات القياس.
 
إن أراد الإنسان لصراعه أن يكون صراعًا طبقيًّا، فهو يتمكن من ذلك، وإن أراد لها أن يكون طائفيًّا، كان له ذلك، وإن أراد (أنا) شترنر، أو مثالية هيجل أو ما يشاء من الخيارات، فهي بين يديه، ومُهِمَّته في جميع الأحوال لا تخرج عن جمع أجزاء العِلَّة المُحَقِّقة للمعلولِ الحَدَثِ الواقع في الخارج.
 
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
7 مارس 2015

No comments:

Post a Comment