من القضايا البديهية لدى الإنسان، وممّا تقوم عليه البراهين والاختراعات والأفكار، القضيَّتان التاليتان:
الأولى: استحالة وجود الممكن بلا عِلّة.
الثانية: استحالة تخلُّف المعلول عن العِلّة.
الثانية: استحالة تخلُّف المعلول عن العِلّة.
بالرجوع إلى الأولى نقول أنّ كلّ موجود سوى الواجب تعالى، فإنّه محتاج لعلّة توجده، فيكون معلولًا لها، فيستحيل أنْ يوجد شيء دون وجود علّته بتمامها، وذلك نحو وجود الطّاولة التي يقوم النّجار بصناعتها، فإنّها احتاجت في وجودها لعدّة علل فوُجدت، وبالرجوع إلى الثانية نقول أنّ وجود العلّة يعني وجود المعلول، فيستحيل أنْ يتخلّف المعلول حال وجود علّته، فإنّه يوجد اضطرارًا حينها، فلو أمسكتَ بورقة مرطّبة بالبترول، وقرّبتَ منها شرارة، لاشتعلت النّار لا محالة لاجتماع علّتها وعدم وجود المانع.
إذا كان ما سبق واضحًا، أنتقل لأقول أنّ الأمثلة المادّية المذكورة ليست إلا لتقريب الصّورة للأذهان، فإنّ الأمور الفكرية والمعنوية كذلك، قائمة على نفس النّظام، ولا تخلو من القضيتين البديهيتين المذكورتين بالأعلى.
قلِّب ما مضى في ذهنك جيدا، وانتبه للّتالي:
ينقسم البرهان إلى برهان لِمِّي، وبرهان إنِّي، والأول هو ما تكون البرهنة فيه عبر الانتقال من العلّة للمعلول، والثّاني هو ما تكون البرهنة فيه عبر الانتقال من المعلول للعلّة.
مثال الأول: الاستدلال على تمدّد الحديدة بارتفاع حرارتها، فتقول أنّ هذه الحديدة حارّة، وبما أنّها حارّة فهي متمدّدة.
مثال الثاني: الاستدلال على ارتفاع حرارة الحديدة بتمدّدها، فتقول أنّ هذه الحديدة متمدّدة، وبما أنّها متمدّدة فحرارتها مرتفعة.
أمّا ما أردته من طرح ما مضى فهو محاولة إيجاد آلية عمل، نتمكّن من خلالها من صناعة واقع جديد، نرتقي من خلاله بأنفسنا، ومجتمعاتنا، وأمّتنا، بل الإنسانية جمعاء، وهي قائمة على ما سبق.
الآلية التي أرى أنّها من الممكن أنْ تكون واحدة من أفضل الطّرق، إنْ لم تكن الأفضل، لحلّ المشاكل على اختلافها، وللارتقاء بالمجتمعات والأمم، هي ذات اتّجاهين، ترتكز على البرهان بنوعيه، الإنّي واللمّي، فنبدأ عن طريق البرهان الإنّي من إرجاع الظواهر إلى عللها، سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو غيرها، فنحن ننطلق حينها من خلال الواقع الذي نعيشه (المعلول)، إلى العلل، لنضع أيدينا عليها، هذا ما يحتاج للقيام بالعديد من الدّراسات، حتّى نصل للعلل الحقيقية أو نقترب منها، ولا أقصد بالظّواهر، السّلبية منها فقط، بل الإيجابية أيضًا، وبذلك يلزم عدم توقّف الدّراسات، والعمل الفكري والثقافي عن الدّوران.
في المرحلة التّالية، ننتقل من خلال العلل لنُوجد المعلول، فبعد أنْ عرفنا سابقًا، عبر دراسات متنوعة، علل الكثير من الظّواهر والعادات وما شاكل، فيمكننا التّحرك من أجل إيجاد هذه العلل، وزراعتها في مجتمعاتنا، وإذا وجدت هذه العلل التّامة دون وجود مانع ما، فإنّ المعلول يتحقّق، ولا يتخلّف أبدًا كما هو مثبت في محلّه.
أدّعي أنّ الغرب والقوى الكبرى يعملون بهذا الشّكل، وخصوصًا أمريكا، ولمعرفة الدّليل على ذلك، تابعوا الإحصائيات التي يتمّ تداولها هنا وهناك، عن حجم ما تصرفه الولايات المتحدة الأمريكية على الدّراسات العلمية، وقد ذكر السّيد محمد العلوي في مقال سابق بعض الإحصائيات بالتّفصيل، تحت عنوان (البليون ألف مليون.. إنّها كارثة)*، وهو ما يجعل هؤلا يتحرّكون ضمن رؤى واضحة، تمكّنهم من الوصول لأهدافهم.
أما في مجتمعاتنا، فنستغرب أنْ يخرج أحدهم، ليحرّض النّساء على المطالبة بمهور عالية، وبمنزل، وسيارة، وما إلى ذلك، ليضيف علّة جديدة لحالة اجتماعيّة متردّية، تعيشها الكثير من الأسر، وما هذا إلا مثال بسيط على بعض العقليّات التي تصنع ما تصنع بمجتمعاتنا، عوضًا عن أنْ يمدّوا أيديهم لإيجاد الحلول المناسبة، ولبناء واقع جديد، يساهمون بشكل أو بآخر بزراعة بذور الخير، لتكون علّة لمستقبل أكثر جمالًا وزهوًا.
١٥ جمادى الأولى ١٤٣٦ هـ
__________________________________________________
* يمكنكم قراء المقال من هنا:
No comments:
Post a Comment