Friday, March 13, 2015

الإبداع.. بين الإلزام والالتزام // محمود سهلان

 
 
تعيش بين أوساطنا ثقافةٌ تقتضي أنْ يُلزمنا أحدٌ بشيء، وإلّا فإنّنا نبقى خاملين، لا نتحرّك يمينًا ولا شمالًا، فنظلّ بانتظار أمر أحدهم ليحرّك سكوننا، ويدفعنا نحو عملٍ مّا، واتّجاهٍ ما، فلا نقدر على أنْ نتقدّم بمفردنا، وبإرادتنا مجرّدةً من أيّ إلزامٍ من أيّ جهة.
 
أدّعي أنّ هذه الحالة باتت طبيعيّةً كنتيجةٍ لمقدّماتٍ تصحّ أنْ تكون علّةً لها، فمنذ صغرنا اعتدنا على أنْ يلزمونا بتأدية واجباتنا، مهما كانت هذه الواجبات، خصوصًا فيما يتعلّق بالمدارس، وطرق التّعليم فيها، وكيفيّة تجاوب الطّلّاب والأهالي معها.
 
لذلك فنحن اليوم صنيعة مقدّماتٍ جعلت الكثير منّا خاملًا، لا يتحرّك لينتج ويبدع، فقليلٌ مَن يستطيع أنْ يلزم نفسه، ويهذّبها على أمرٍ مّا، فدائمًا ننتظر مَن يُلزمنا بأيّ شيءٍ أو لا نتحرّك.
 
في الواقع إنّ التزام الفرد بنفسه، عندما يكون التزامًا يساوق الطّرق العقلائيّة الصّحيحة، فإنّه مما يقود للإبداع والإنتاج أكثر فأكثر، فلو كان أحدٌ يريد أنْ يرتقي علميّا في مجال مّا، فهو أمام الاكتفاء بما يلزمه به الأساتذة، أو أن يُلزم نفسه ويضيف لها بنفسه، وفي الحالة الأولى على الأغلب لن يحقّق هذا الفرد شيئًا يذكر، وقد يحصل على مرتبةٍ علميّةٍ ما، أو مؤهلٍ مّا، لكنّ إنتاجيّته وإبداعه يتوقّفان هنا على الأغلب، أمّا الآخر الذي يُلزم نفسه، ويخطّط لنفسه، ولا يكتفي بما ألزمه به الآخرون، فتراه يُنتج ويتقدّم ويبدع أكثر عادةً.
 
كلّ ذلك لأنّ الثّاني فتح مداركه، وأعمل عقله، وأدار الأمور بإرادته وعزيمته الذّاتيّة، ولم يتوقّف في ذلك على منهج أحد، أو على إرادة أو عزيمة أحد، وبذلك فإنّ مجال التّصور، والخيال، والإبداع، كلّها مفتوحةٌ أمامه، وآفاق العقل متّسعةٌ، وآلات العقل كلّها حاضرةٌ، إذ هي لا تريد ـ للعمل ـ سوى شخصٍ يخرجها من القوّة للفعل.
 
وعليه، فكلّما التزم الفرد منّا بما يفرضه غيره، وقيّد نفسه به، قلّت فرص الإبداع عنده، والعكس مع مَن يفتح لنفسه وعقله الآفاق، ويُلزم نفسه، ولا ينتظر الإلزام من غيره، فإنّه يتّجه نحو الارتقاء والتّقدم أكثر فأكثر.
 
وليس كلامي محصورًا في مجال العلم فقط، وإنْ كان له الأهميّة البالغة، فعلى سبيل المثال، انظر للشّرائع السّماويّة، وسترى بأمّ عينيك الكمّ الهائل من المستحبات، والثواب الكثير الغزير عليها، وهي ممّا يُلزم العبد بها نفسه، ولم يلزمه أحدٌ بها، على عكس الواجبات، التي أُلزم بها، ويعاقب على تركها، ولا بدّ من النّظر في درجات المؤمنين، والتّعرف على طرق الوصول لها، وبأيّها يتجاوز المؤمن غيره، وبأيّها يتيسّر أمره، وبأيّها تتحسّن دنياه وآخرته.
 
الفارق بينَ الكلمتين حرفٌ واحد، لكنّ النّتيجة شاسعةٌ، فتأمّل..
 
 
٢٢ جمادى الأولى ١٤٣٦ هـ

No comments:

Post a Comment