Friday, March 20, 2015

قصَّةٌ قصيرة: أحمد ينتصر // محمود سهلان

 
 
أكمل أحمد المرحلة الثانويّة بأعلى مراتب التّفوق، فبات يطلّ على عدّة أبواب، لا يحتاج سوى لطرق أحدها لينطلق في مشواره العلمي، كذلك تتعدّد الجهات التي يمكنه أنْ ينضمّ إليها، فالجامعات كثيرة، وكذلك المعاهد، والحوزات العلميّة أيضًا..
 
كان قد اختار أنْ يتخصّص في مجال الطّب، تحت ضغطٍ كبيرٍ من الأهل، لأنّه في الحقيقة كان متعلّقًا جدًّا بالحوزة، وعلمائها، لكنّ ذلك لم يزل حبرًا على ورق، فما زال أمامه شهران ليبدأ المرحلة الدّراسيّة الجديدة، ولم يزل يفكّر في الأمر، فإنّه على الأغلب يضع خطوته الأولى في خطّ المستقبل.
 
أحمد: أبي.. فكّرت مليًا في مستقبلي العلمي، ومع قرب انطلاق العام الدّراسيّ الجديد في البلاد، أردت أنْ أطلعك على قراري..
الأب: وما هو يا بني؟
أحمد: أنا لا …
الأب: لا تقلْ أنّك غيّرت رأيك..
أحمد متلعثمًا: نعم.. نعم يا أبي.. غيّرت رأيي، ولن أذهب للجامعة!
الأب: إذن ماذا؟
أحمد: أملك حلمًا تعرفه يا أبي، وقد عزمت على العمل من أجل بلوغه.
الأب: آه يا أحمد، وماذا يمكنك أنْ تجنيَ منه، غير الشّقاء والتّعب والفقر.
أحمد: وهل العلم يُطلب للراحة والغنى؟! أم أنّه مطلوب لنفسه، ولغيره، ولكلّ حركةٍ ونفس.. اعذرني يا أبي، وأرجو أنْ تفهمني..
 
ترك أحمد أباه ساهمًا يفكّر في الأمر، وذهب هو وكلّه قلق وترقّب، ينتظر ما تذهب إليه الأمور.
 
يعلم أحمد تمامًا أنّ النّظرة الماديّة طغت على الكثير من الجواهر الثمينة، كالعلم مثلًا، فبات القياس لا تكون كُبراه إلّا المادّة، فلا شيء يمكن أنْ يكون نتيجة، ما لم يتعلّق بالأمور المادية، لكنّه كان مصرًّا على مواجهة هذا التّيار الجارف بكلّ قوّة، فإنّه ممن يستطيع أنْ يقول لا عندما تكون فكره، وكذلك يقول نعم عندما تمثّل الـ (نعم) فكره..
 
استمرّت ضغوطات الأهل، بل وبعض الأصدقاء عليه، لكنّه قاومها بحكمته وفطنته، فثبّت جذوره في الأرض، وجعل أوراقه تتمايل، دون أنْ يتزحزح عن مكانه، فإنْ كان يمكن للرّياح أنْ تزيل الجبال لأزالته! لكنّه بكلّ تمسّك بفكره واختياره نجح في اجتياز كلّ الضغوطات، وبدأ مشواره العلمي من هناك..
 
قبِل الأهل والأقارب بالواقع الذي فرضه أحمد على مضض، وظلّوا يراقبون من بعيد، وقد يتوجّهون باللّوم إليه أحيانًا، ولوالديه أحيانًا أخرى، لكنّ شيئًا لم يتغيّر في نظره وحياته.
 
انطلقت الدّروس بنظامها الذي اعتادته الحوزات، وانغمس فيها أحمد بكلّه، حتّى كان كالمهاجر لبلاد أخرى، لا يراه أهله، ولا أصدقاؤه، ولا أهل محلّته، ولا يراهم، فكان شديد الالتزام بدروسه، سواءٌ كان في الحوزة أم بالمنزل أو المسجد، أم بأيّ مكان آخر، فلم يكن يرى العلم محصورًا في شيءٍ مطلقًا، بل رآه كذرّات النّور التي تتناثر في كلّ آن، لا تترك ظلامًا إلا اقتحمته، ولا كدورةً وإلا منحتها من صفائها صفاء.
 
مرّت الأيّام متسارعة، ولحقت بها الأسابيع والشّهور، مصطحبة الشّيخ أحمد في رحلة، طالما كان يقطع التّذاكر لها، أملًا منه أنْ يحطّ في تلك البقعة التي رسم طريقها، ليرفع معه مجتمعًا وأمّةً فعل بها الزمان ما فعل، ولم يكن الفاعل إلا هي.
 
بعد أربع سنواتٍ من الجهود والتّضحيات، ارتدى زيّ العلماء، عمامةٌ بيضاء ناصعة، تجلس على رأسٍ متلألئ تزيّنه عينان واسعتان، ووجهٌ بشوشٌ لا تفارقه الابتسامة، يسرّ كلّ من ينظر إليه منظره.
 
في هذه المرحلة بالذّات، اختفت كلّ الأصوات التي عارضت توجّه الشّيخ أحمد للحوزة كبديل عن الجامعة، بعد أنْ كانت تتلاشى كلّ يوم، وبدأ العدّ العكسي، وبات أغلب من يعارضه سابقًا، يفتخر به اليوم، فقد قُلبت المعادلة، على يد ذلك الفتى..
 
لم يتوقف أحمد هنا، فهو يسعى لما هو أبعد بكثير، ولم يعتبر ما مضى سِوى البداية، والخطوة الأولى لا أكثر..
 
ولا نزال ننتظر أحمد..
 
 
٢٠ مارس ٢٠١٥

No comments:

Post a Comment