Friday, March 20, 2015

الهواتف الذكية بين الاستثمار، والاستدمار // أبو مقداد



لم يكن جهاز الهاتف شيئًا مفهومًا لدى الناس، ما هو هذا الجهاز الذي يوصل صوت الإنسان للآخر في مكانٍ بعيد بمجرد لمسِ أرقامٍ معينة. المسألة تبدو كالخرافة، البعضُ يصدقها مُجبَرًا والبعضُ الآخر يكاد يُقسمُ أن في الأمرِ سحرًا. والحياة تسيرُ بشكلٍ طبيعي حيوي بدون هذه الأجهزة، وقنوات التواصل الاجتماعي ثرية جدًّا، وإن كانَ مداها محدودًا. يخرجُ الزوج في الصباح لعملهِ، وحتى ينتهي ويعودُ ينقطعُ اتصاله بعائلته، وهو أمرٌ طبيعيٌّ لا إشكالية فيه، الزيارات الأسبوعية الروتينية لمنزل العائلة مُتَّفقٌ عليها لا تحتاج لتأكيد، والجميع يفهم الجميع!
هكذا كانت الحياة، ببساطتها وعفويتها وانسيابيتها، من أجل التواصل الاجتماعي لا بدّ للفرد من القصد والحركة والوصول، والإشعار الوحيد المتاح والعملي، هو طرق الباب، وانتظار الجواب.. حتى بدأت فكرة الهاتف في الانتشار بين البيوت لتسهيل عملية التواصل هذه، شيئًا فشيئًا حتى تحوّل هاتف المنزل للهاتف النقال، والذي لم يكن يملكه سوى الأب في الأسرة فقط، ويُستخدم لحالات الضرورة فقط.

هذه كانت البداية، وهي - بحسب رأيي - عملية تطور طبيعية. فإلى أين وصلت يا ترى؟!

فجأةً وبمقدمات ربما تكون بسيطة، غزت الهواتف الذكية - حسب ما تُسمى - جيبَ كل فردٍ منا، وتحولت من وسيلة اتصال تُستخدم عند اللزوم، لحاجة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا، وصار شاحن الطاقة للهاتف من ضرورات الحياة بجانب الماء والطعام والهواء، بل أكثر من ذلك، أصبحت داخل هذه الهواتف مجتمعات أخرى وحياة اجتماعية ثانية غير التي نعيشها على أرض الواقع!
 
وبنفس صعوبة الانفصال عن المجتمع، صار من الصعب أن ننفصل اليوم عن هواتفنا ( الذكية )!

يضج الهاتف في برامج التواصل الاجتماعي، منها الكتابي، ومنها المصوّر، ومنها من يعتمد تقنية الصوت أو الفيديو، وبكلها تنشغل الأذهان وتُطأطأُ الرؤوس. هذه الأجهزة وهذه البرامج، احتلت من وقتنا الكثير، كما أنها جمعت العالم كله في كفٍّ واحدة، وأصبح من الممكن أن تصل لأي نقطة لأي معلومةٍ لأي شخصٍ مهما كان بعيدًا في المسافةِ عنك بلمسة شاشة، كما صار من الممكن أن تشرد بذهنك عن من يجلس بجوارك لأبعد نقطةٍ ممكنه!

لست بصدد السرد الوعظي لمساوئ الهواتف الذكية، ولست كذلك من الدعاة لمحاربتها أبدًا، لأني أظن بأنها التطور الطبيعي لهذا العصر، فمن الصعب جدًا الاستغناء عن الهواتف في عصر ثورة الاتصالات هذه، طبعًا قد يعتزل أحدهم الانخراط الكثيف في هذه البرامج ولكن ولو بجزءٍ بسيط سيبقى متعلقًا بها ولو على مستوى حياته الأسرية، سواء كان هذا الإنسان أبًا أو أُمًّا، طفلًا أو كهلًا، جميع المراحل العمرية والطبقات الاجتماعية ستجد أنها تملك علاقةً خاصةً بهواتفها!

- هل يمكن ضبطها؟!

أتذكر أني بلغت الثامنة عشر من عمري قبل أن يُسمحَ لي أن أقتني هاتفًا محمولًا خاصًّا بي، خاضعًا لسيلٍ شديدٍ من التحذيرات مِن قبلِ الأسرة الحاكمة في المنزل، ومُراقبةٍ أشدّ من مراقبة شركات الاتصال، بالإضافة لأن هذا الهاتف لم يكن يحمل من خياراتٍ أكثر من إجراء مكالمة، وإرسال رسالة من سبعين حرفًا، ولعبة الثعبان الشهيرة، كما يمكنني تغيير نغمة الهاتف، لذلك فكانت نسبة احتمالية سوء استخدامي لهذا الهاتف ضئيلة جدًّا، ورغم ذلك كانت المراقبة المرعبة تحوم حولي، واستغرقت وقتًا حتى نلت ثقة والديّ باستحقاق، اليوم أخي الأصغر امتلك هاتفه الخاص قبل أن يكمل التاسعة من عمره، وذلك للضرورة، ومن الصعب جدًّا على الأبوين أن يمنعانها. وهاتف اليوم - بطبيعة الحال - مختلفٌ جدًّا عن هاتفِ أمس، فبرامج التواصل الخاصة والعامة تحكم سيطرتها، بخيرها وشرها، وزر البحث قد يوصلك لعمق الكعبة، أو يجلسك على كرسي حانةٍ في لحظات، فالرقابة باتت صعبةٌ جدًا جدًا!
مَن يا ترى يحمي فضولَ الصغار والمراهقين من العبثِ في المفاسدِ التي بين يديهم، ومسؤولية مَن يا ترى أن يدفعهم للاغتراف من الكنز الذي بين يديهم؟

اليوم لم يعد بالإمكان أن ينتظر الأب بلوغ ابنه للثامنة عشر أو قبلها بقليل حتى يخبره عن تفاصيله الحساسة ليقوّمه، ويجيبه عن تساؤلاته التي يصعب شرحها لمن هم في سنه، فهاتفه سيقوم باللازم، وإن لم يقصد هو البحث عن تفاصيل، أو لم يشأ أن يتساءل، فالإعلانات المفاجئة، أو بعض المعلومات والصور في بعض البرامج كفيلة بإثارة العديد من الأسئلة التي غالبًا لن يجاب عليها بشكلٍ صحيح!

في تصوري أن المراقبة اليوم لم تعد ممكنة بذات الدقة التي تمت مراقبتنا فيها، وما يحتاجهُ الآباء هو أن يؤسسوا منذ البداية جيلًا قابلًا لممارسة هدايته بنفسه، مراقبًا لنفسه بنفسه، حذقًا في سلوكياته، وبالطبعِ فإن هذه العملية ليست بالسهلة، ولكنها أجدى من محاولة مراقبته وتوجيهه إن فات الأوان، فالطفل لا بدّ له أن تؤسَّس نفسيته على أن تكون صالحة، لا معقدة. فالتربية في ظل سيطرة برامج التواصل الاجتماعي تحتاج لتقنية خاصة وحذرة جدًّا.

- هل هو تواصلٌ اجتماعي؟ أم عزلة اجتماعية؟!

- كتوصيفٍ - ممكن أن نطلق على برامج التواصل بأنها تمثل مجتمعًا افتراضيًّا، يلتقي فيه الناسُ بشكلٍ ما، يتبادلون أحاديثهم، أفكارهم، صورهم، وما شابه، وهو مجتمعٌ يشابه بحدٍّ كبيرٍ ذاك المجتمع الحقيقي، ولشدة رواجه أظن أن للمجتمَعَيْن انعكاسٌ واضح على بعضهما البعض، وتأثيرٌ ملحوظ، والجوانب الإيجابية في هذه الناحية عديدة، تدخل فيها إمكانية الوصول لأي معلومةٍ، أو البحث عن إجابات للعديد من الأسئلة بسرعة، إمكانية التواصل مع الآخرين بشكلٍ سريع ومستمر وغيرها من الفوائد والآثار، إلا أن ما أود أن أشير له هو حالٌ يكاد يكونُ سائدًا في بيوتنا وتجمعاتنا، حيثُ تجد الجميع ينحني على هذه الهواتف، ورغم اكتظاظ المكان بمن فيه، إلا أنه و في كثير من الأحايين فإن الهدوء هو سيد الموقف، لم نعد نجيد التواصل كما السابق، فالكل منشغلٌ بما في يده عن الآخرين، كثيرٌ من لقاءاتنا أصبحت باهتةً، وبدل أن يتعزز تواصلنا الحقيقي، بتواصلنا الافتراضي، صار الإنشغال بالأخير هو المتسيّد، ناهيك عن حجم المشاكل التي قد تنشأ نتيجة للإنشغال الدائم بهذه البرامج، سواء كانت مشاكل تربوية أم مشاكل زوجية، أو اجتماعية، أو ربما حوادث سير، واقعًا، فالأم قد تنهر أطفالها اليوم بفضاضة إن شاغباها أثناء اندماجها في هاتفها، والزوج قد يهمل جزءًا كبيرًا من حق بيته بسبب هذا المجتمع الافتراضي الجديد، عوضًا أن يكون الهاتفُ سلاحًا داعم لحياة الفرد الاجتماعيّة، صار هادمًا لها!!

يقول أحدهم مازحًا: أنا اليوم أستطيع تحمل السجن لسنواتٍ بشرط أن يكون معي هاتفي أو جهازي الآيباد!
وهذه ليست مزحة بقدر ما هي واقعٌ على أن الإنسان صار على استعدادٍ أن يمارس عزلته عن الناس ولو بشكلٍ تام، إن تمكن من التواصل مع جهازه الخاص، وحقيقة للآن لم أعلم، أهو تواصلٌ اجتماعي، أم عزلة!؟

طبعًا فلهذه الأجهزة الفوائد الكثيرة والجمة، أهتم في ذكر واحدة منها، وهي إمكانية دراسة أي علمٍ وتخصص من خلاله، فالشبكة العنكبوتية اليوم صارت تضج بالدروس والعلوم التي يعجز الإنسان من الاغتراف منها ولا تنتهي، كما أستثمر المقام للإشارة ببرنامجٍ من أهم البرامج التي أستفيد منها شخصيًا، فبالأمس كانت القراءة بالنسبة لي تعتمد على ادخاري للأموال وزياراتي القليلة للمكاتب، واليوم أجدني مع تطبيق "المكتبة الجامعة" كواحد من الكثير من التطبيقات التي تحتوي على العديد  من الكتب بمختلف أنواعها والثرية بالمعلومات والأفكار، ومع توفر العديد من الكتب بصيغتها الرقمية (pdf) صار بإمكاني القراءة في كل مكان وفي كل زمان بكل سهولة.

ختامًا.. الأجهزة التي بين يدينا، هي نتاج التطور الذي ربما اخترقنا دون أن نشعر أو نرغب، وربما أصبحت من ضروريات العصر، وحالها حال الكثير من الأشياء حولنا، فهي سلاحٌ ذو حدَّين، يمكننا من خلاله أن نصعد لقمة التطور، أو أن ننحدر لقعره، نحتاج فعلًا للحكمة التي تفرّق لنا بين الاستثمار.. والاستدمار!
مسؤوليتنا اليوم، أن نعرف كيف نطوع هذه الأمور لتضيف لمخزوننا الفكري والاجتماعي والإنساني، لا لأن تأخذ منه، ومسؤوليتنا الأكبر هي أن نساهم في إنشاء جيل جديد، يعرف جيدًا كيف ينظمَ نفسه جيدًا، وكيف يكون مسؤولًا عن نفسه ومراقبًا لها.
 
 
20 مارس 2015

No comments:

Post a Comment