Friday, March 20, 2015

على ضفاف الذكريات (15) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

لم أكن لاختلط بهم.. أراهم في الجامعة، وبعض الأحيان بالقرب من سكننا.. وأقصى تعامل معهم هو السلام من بعيد.. كان الشيرازيون لهم وجود نشط في أمريكا لكنه في بداية التسعينات بدأ في التفكك والضعف نظرًا لتخرج الكثير منهم ورجوعهم إلى بلدانهم.. كان يُعرف مكان تجمعهم باسم مركز الشباب المسلم.. ظلّت هذه العلاقة هكذا حتى رحيل آخر جماعة منهم، وقد قامت بإغلاق مكان تجمعها وأتت بكتبها (في صناديق) إلى المركز الإسلامي لكي يتم الاستفادة منها.. فقام القائمون على المركز بوضع الصناديق في مخزن المكتبة، ولم يتم وضع كتاب واحد من كتبهم في المكتبة.. هذه الكتب ظلت في صناديقها لفترة عامين قبل أن يتم تغيّر آخر أدى لخروجها من ظلمتها ووحدتها.

لا تزال أحداث الكويت محل اهتمامنا الدائم، وكذلك كان اهتمام الرأي العام الأمريكي الذي لم يكن متشجعًا للدخول في الحرب خصوصًا بعد هزيمته النكراء في فيتنام والتي تركت أسوأ الأثر عند الشعب الأمريكي اتجاه حروب أمريكا.. الساسة الأمريكان كانوا يريدون العراق، لكن كيف؟! 

في 10 أكتوبر من ذلك العام ظهرت فتاة في الخامسة عشر من عمرها باسم "نيرة" في جلسة بواشنطن أمام مجلس حقوق الإنسان وبحضور جمع من نواب مجلس الشيوخ الأمريكي. 4 دقائق ألقت فيها تلك الفتاة شهادتها وكانت كفيلة بترجيح كفة الرأي العام الأمريكي لخيار الحرب. بكت الفتاة، وشهدت أنها كانت متطوّعة في إحدى مستشفيات الكويت وقد رأت بعينيها الجنود العراقيين الغازين وهم يسرقون حاضنات الرضع (الخدج) من المستشفى وتركوهم ليموتوا.



 
استخدم الرئيس جورج بوش الأب هذه الشهادة في عدة من خطاباته الداعية للحرب، وكذلك قام عدة من نواب مجلس الشيوخ بذلك أيضًا. كانت تلك الشهادة كافية لقلب الرأي العام الأمريكي بعد أن كان يحاسب كثيرًا ويحذر من الولوغ في أي حرب بعد وحل فيتنام الذي اكتشف فيه خداع حكومته والجرائم التي قام بها الجيش الأمريكي في الفيتناميين والخسائر التي تكبدها الشعب الأمريكي والتي على إثرها قام بحركة احتجاج داخلية ضد الحرب يترأسها الكثير من الشباب والطلبة الأمريكان وغيرهم حتى دفعوا بالرئيس الأمريكي نيكسون لأن يوقف الحرب.


أتذكر ليلة قصف العراق والتي حولت ليله نهارًا.. كانت الأفكار متضاربة وكذلك المشاعر، بين مؤيد للحرب نكاية في صدام المجرم وما قام به من جرائم بشعة قبل وبعد حربه على الكويت، وتشريد الشعب الكويتي الذي أصبح لاجئًا في البلدان الأخرى، وبين رافض للتدخل الأمريكي واستباحة المنطقة بأكملها أمام مرأى العالم. لم يكن هدف أمريكا شريفًا نظرًا لتاريخها الأسود في الحروب التي قامت بها، وكذلك هناك توجّس من استغلالها لهذه الحرب في بسط المزيد من سيطرتها ونفوذها في المنطقة خصوصًا وأنها هي التي دعمت صدام طوال حكمه، بل زودته بالأسلحة الكيمياوية ليستخدمها ضد شعبه. كان الإعلام الأمريكي مطبقًا على جرائم صدام عندما قام بها، بل أتذكر الكثير من المعارض التي كان يقوم بها المهجرون العراقيون تحوي صورًا عن بشاعة إجرام صدام، ومع ذلك لم يحرّك ذلك ساكن عند الأمريكان. أما الآن، فالحرب قائمة وأفواج من الجنود تقدر بمئات الألوف من الجيش الأمريكي تتوجه لكي تخلص الكويت من هذا الطاغية التي ربّته على يديها.


كنا نشهد حينها حقبة زمنية جديدة، لم نكن نسمع أخبار الحرب عن طريق المذياع أو جريدة الأخبار وبعد عدة أيام أو ساعات، بل كان البث مباشرًا.. قناة السي إن إن كانت تنقل أحداث العراق حين حدوثها.. كنّا جلوسًا في بيت أحد الأصدقاء نشاهد التلفاز ينقل أحداث الحرب مباشرة.. كانت القنوات التلفزيونية تعجّ بالتحليلات السياسية عن قوة العراق وشراسة صدام حسين وما هي ردة فعله المتوقعة، لكن الخسيس فرّ كالفأر هاربًا مذعورًا بعد أن أِشعل النار في حقول النفط، أو ربما قام بذلك الأمريكان أنفسهم فالساسة الأمريكان هم من علموه الخسة. بعد فترة من المتابعة للإعلام الأمريكي اتضحت سياسة الأمريكان العسكرية وهي خلق عدو بين فترة وأخرى وتضخيمه لإحداث حالة خوف ورعب منه ثم يتم التهيئة والاستعداد لمواجهته والقضاء عليه.



في تلك الفترة، كان التلفزيون يقيم الكثير من الاستطلاع على آراء الناس حول العراق والحرب وكان اللافت للانتباه هو جهل الشعب الأمريكي بالجغرافيا والشعوب الأخرى. في أحد البرامج كان هناك سؤالًا يطرحه مقدم البرنامج على الناس في الأماكن العامة وكان السؤال هو: أين تقع العراق؟ جاءت الإجابات مختلفة، إلا أن الإجابة المضحكة هي: بالقرب من ألمانيا!!! كيف لشعب أن يتحمس لحرب لا يعلم أين موقع الدولة التي سيحاربها؟ وكيف لدولة متطورة علميًا ومسيطرة عالميًا أن يكون مستوى الثقافة عند شعبها بهذا التدني؟!

كان صديقي عباس في تلك الفترة مشغول البال، كثير الهم.. لم يكن يركز كثيرًا في الدراسة مع أنه طالب مجتهد.. كنا نحاول أن نخفف عنه بعض ذلك الهم، لكن تلك الأشهر كانت قاسية عليه جدًا. ليس من السهل أن ترى وطنك محتلًا.. كنا نسمع الكثير من الأحداث والقصص عن خروج الكويتيين من الكويت ولجوئهم إلى البلدان الخليجية المجاورة وكذلك إلى الغرب. في تلك الفترة أيضًا تعرفتُ على كويتيٍ آخر لا أتذكر عن حاله كثيرًا بل لا أتذكر حتى اسمه، إلا أن الطريف فيه أنه نصب عليّ مبلغًا من المال، مع أن حاله كان ميسورًا، والمبلغ الذي أعطيته إياه لم يكن كثيرًا.. بعد أن أدنته المبلغ، اختفى من المنطقة، وكل ما أتذكر أن أحد أصدقائنا القطيفيين قد لامني على مساعدته فكان جوابي له أن العيب عليه لا عليّ. كان الشاب خلوقًا وله علاقة جيدة معنا، فلم أجد ما يدعوني للريبة منه لكي لا أساعده. قد يكون المال ثمينًا لكن شرف الأمانة أثمن.   

انتهت الحرب في فترة قياسية قصيرة جدًا لا تتعدى الأسابيع.. قبل توقف إطلاق النار بعدة أيام كان لبوش تصريح بأن رأيه أن يقوم الشعب العراقي بعزل صدام، وكذلك قامت السي آي أي بدعم قناة صوت العراق الحر - في السعودية - بالدعوة للانتفاض والانقلاب على صدام، لتبدأ بعدها مباشرة انتفاضة الشعب العراقي على الحكم البعثي.. تلك هي الانتفاضة الشعبانية.. هذه الانتفاضة التي تأخرت أحد عشر عامًا عن دعوة السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) للشعب العراقي بالانتفاض على الحكم البعثي، لكنه لم ينتفض وتم اعتقال السيد واخته ومن ثم إعدامهما.. كانت الانتفاضة فرصة كما يبدو، فالحظر الجوي من الأمريكان على صدام ساهم كثيرًا في سيطرة الشعب العراقي على المحافظات.. سقطت المحافظات.. محافظة تلو محافظة.. حتى سقطت أربعة عشر محافظة من أصل ثمانية عشر.. كان النصر وشيكًا..

ذات صباح وبينما أقرأ الجريدة، وإذا بخبر عن سماح الأمريكان للعراق باستخدام الطيران لإخماد الانتفاضة وكان العذر أقبح من ذنب. تم مد صدام بالطيران تجنبًا للفتنة وخوفًا من تقسيم العراق! انتهت الانتفاضة بقتل الآلاف من العراقيين وتهجير ما يقارب المليون ونصف. 
 
تبيّن بعد انتهاء الحرب بعام أن "نيرة" المجهولة الاسم لم تكن إلا بنت السفير الكويتي في أمريكا من عائلة الصباح، وأن شهادتها كانت بتنظيم شركة علاقات عامة "هيل آند نولتن"، وأن شهادتها تحوم عليها الكثير من الشبهات. وبذلك اعتبرت هذه الشهادة مثالًا كلاسيكيًا على البروباجندا الإعلامية، إذ لم يثبت أن العراقيين قد سرقوا حاضنات الرضع، بل أن التقارير كشفت أن الأطفال الذين ماتوا إنما بسبب هروب الأطباء والممرضين من الكويت. أثيرت ضجة كبيرة على هذه الحادثة، إلا أن الطيور طارت بأرزاقها.

بينما العراق يضج بانتفاضته، ضجت أمريكا بحادثة صورت أحداثها كاميرا فيديو من بلكونة أحد المواطنين الأمريكان بعثها لأحدى القنوات.. يظهر في الفيديو أربعة من الشرطة الأمريكان البيض وهم ينهالون ضربًا على أسود..


يتبع في الحلقة القادمة..

 
20 مارس 2015

No comments:

Post a Comment