Friday, March 13, 2015

التعطش للمدح // إيمان الحبيشي

 
 
من منا لا يطمح لأن يكون شخصية محترمة ومؤثرة في محيطه ومجتمعه بل في العالم ككل؟ من منا لا يسعى لانتزاع التقدير والاحترام من أسرته، مدرسته، جامعته، عمله، أصدقائه، قريته، وطنه؟! كلنا نسعى للحصول على الاحترام والتقدير من نفوس نحيط بها وتحيط بنا، ومن مجتمعات نعيش فيها وتعيش بعمقنا، كلنا نسعد حين نجد في عيون الآخرين تقديرًا واحترامًا وحبًا لشخوصنا. أكثر من ذلك تعد الحاجة للتقدير والاحترام دافعًا إنسانيًا يصقل شخصية الفرد ضمن محيطه ومجتمعه، ودافعًا إنسانيًا يحمل الإنسان نحو الإنجاز والإبداع، حتى عدَّها ماسلو حاجة إنسانية أساسية، يندفع الإنسان نحو إشباعها، وفي حال عدم إشباع تلك الحاجة فقد يعيش ذلك الإنسان اضطرابًا نفسيًا يحتاج معه لتقويم إنساني ونفسي واجتماعي ليعود بعد ذلك امرأً سويًا قادرًا على العطاء في مجتمعه.
 
بمراجعة سريعة للنظرية النفسية التي طرحها ابراهام ماسلو، سنجد موقع الحاجة للتقدير واضحًا، فعلى أساس نظريته قسَّم ماسلو الحاجات الإنسانية وفق هرم - هرم ماسلو للحاجات الإنسانية - قاعدته الحاجات الأكثر إلحاحًا وتأثيرًا في الإنسان وفي صحته الجسدية فالنفسية وهي الحاجات الفسيولوجية كالغذاء والماء والتنفس والإخراج والنوم والجنس وغيرها يليها وبشكل أقل إلحاحًا حاجات الأمان، كالأمان الوظيفي والأسري والصحي، ثم وبشكل أقل إلحاحًا الحاجات الاجتماعية كالحاجة للصداقة ولتكوين العلاقات الاجتماعية، ثم الحاجة للتقدير وتتمثل في احترام الآخرين وتقدير الذات والثقة والإنجاز، وينتهي الهرم في قمته بالحاجة لتحقيق الذات متمثلة في الابتكار لحل المشكلات وتقبل الحقائق.
 
 
وعليه فإن شعور الإنسان بنقص في حاجة من الحاجات المذكورة أعلاه، سيؤدي لحالة من الاضطراب النفسي، وهو أمر طبيعي على ما يبدو لكن، كيف من الممكن النظر لحالة الإدمان على حاجة إنسانية أصيلة؟؟

كثيرٌ منا يسعى للتقدير والاحترام، وكثيرٌ منا يصبح واثقًا من نفسه نتيجة إشباعه لهذه الحاجة، وحين أقول إشباعه هو فأدعي أن الإنسان هو الذي يقطف ثمار احترامه للآخرين عبر صقل شخصية سوية تحترم الآخرين وتحترم المجتمع وتحترم ذاتها، فيكون المردود الطبيعي لعمله وجهده واحترامه وإبداعه وعطائه هو تحصيل الاحترام الشخصي والتقدير الذاتي من الآخرين تجاهه، لكن حين يتحول "تحصيل الاحترام" لهوس فيُطبق على كل سعي الإنسان، ليكون هدفه الأول هو انتزاع التقدير من الآخرين فتلك في رأيي مشكلة معقدة، بل أكثر تعقيدًا من حالة الشعور بالنقص والتي تستدعي عادة رفع نسبة ثقة الإنسان في نفسه وقدراته، بدفعه نحو إنجاز ما يجيد إنجازه ليبدع فيه ويقدَّر عمله فيكتسب ثقته في نفسه، بينما حالة "التعطش للمدح والتقدير" مشكلة معقدة حقًا، فكلما مُدح هذا الإنسان سعى لمدحٍ آخر، حتى تكاد أعماله وإنجازاته - إن كانت له إنجازات - محض رياء! أكثر من ذلك، فقد تفرض هذه الحالة على المحيطين بها حالة طوارئ مستمرة، فهم مطالبون باستفراغ عبارات المديح والتقدير والثناء على كل صغيرة وكبيرة، بل ربما حتى على أمور يجدون أنها مرفوضة، أو مزعجة لكنهم لا يسعون لنقدها ولا لتغييرها إمّا إرضاءً لعواطف هذا الإنسان الذي يتعاملون معه أو تجنبًا للدخول في مشكلات شخصية معه.

الأمر الأسوأ أن "هوس" الحصول على المدح والثناء والتقدير صار سمة لازمة في بعض المجالات! حتى أكثرها حاجة للتطهر من الأنا والرياء كالعبادات مثلًا!

في طرفة يتداولها الناس؛ يقال أن رجلًا كان يصلي فأحسن صلاته، حتى مدحه رجال يجلسون بجانبه، فقطع صلاته ليخبرهم أنه صائم أيضًا!! قد تكون تلك مجرد طرفة لكنها تكشف عن حالة سقيمة يصاب بها الإنسان حين يفقد السيطرة على معدل "النسبة الطبيعية" لحاجاته! فتصطبغ كل أعماله حتى الخيِّرة منها بنوايا بعيدة عن الإخلاص لله أو بناء المجتمع، بل قد يُطبق الهوس عليه حتى يصبح إنسانًا غيورًا لا يقوى على أن يستمع لمديح يتوجه لإنسان آخر غيره وإن استحقه، فهو يصارع دائمًا لانتزاع ذلك المديح وبطرق ملتوية أحيانًا! حينها قد يكيل ألوان الشتائم والقذف في النوايا تجاه هذا الإنسان لأنه تحصَّل على التقدير دونًا عنه! أما الثقة بالنفس فتلك ضريبة أخرى يدفعها المهووس بالمدح، إذ ومع مرور الزمن لن يكون لذلك الإنسان مرجعية واضحة من القناعات والمبادئ والقيم، فسلوكياته ستكون موائمة لكل إنسان يطمح في الحصول على ثنائه وتقديره، فتذوي شخصيته مع الأيام ليكون إنسانًا بلا طعم ولا لون ولا رائحة!!!

قد تكون هذه الحالة هي من الحالات التي مارس الإسلام تجاهها علاجًا وقائيًا تمثل على سبيل المثال في صدقة السر، يقول رسول الله صلى الله عليه وآله: (ما نقص مال من صدقة) ويقول (صدقة السر تطفئ غضب الرب) بل كل عبادة في السر أفضل من عبادة في العلن (عن الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن علي بن مرداس، عن صفوان بن يحيى، والحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن عمار الساباطي قال: قال لي أبوعبدالله عليه السلام: يا عمار الصدقة والله في السر أفضل من الصدقة في العلانية وكذلك والله العبادة في السر أفضل منها في العلانية).. قد تكون مثل هذه الإرشادات بمثابة التدريب للإنسان على أن يكون مخلصًا في عمله الخيّر، واثقًا من نتائجه وإن لم تكن ظاهرة للعيان.

ليس من الخطأ أن يسعى الإنسان للفت النظر لإبداعه، ليس من الخطأ أن يسعى الإنسان لأن يكون شخصًا له احترامه في مجتمعه، بل قد تكون هذه الحاجة "مرجعية" جيدة ليصقل الإنسان شخصيته وفق مبادئ يقوم عليها مجتمعه، وفي الحد المعقول طبعًا، لكن لا يجب أن يستسلم الإنسان لإثارة إعجاب المحيطين به، على حساب قناعات صحيحة بحث عنها ووجدها ماثلة أمامه، ليس على حسب حرية عقله وتفكيره، وليس على حساب المجتمع أيضًا، لا بدّ أن يروِّض كل إنسان حاجاته لتكون وفق معدلها الطبيعي الذي وضعه الله بداخل نفسه لحكمة يعلمها هو، وقد نوفق لفهم شيئًا من أهميتها.

قد يخطأ بعض الأهل في تربية أبنائهم، نتيجة الكثير من الظروف منها الجهل ومنها كثرة العيال ومنها الفقر والعديد من الأسباب، مما يتسبب لبعض أطفالهم بأن ينشئوا وشيئًا من النقص أو السقم قد ملأ قلبهم، ليصبح هذا الطفل راشدًا مسؤولًا عن علاج نوازع نفسه عن طريق كبح جماح رغباته المريضة، والخطوة الأولى ليوفق هذا الإنسان لعلاج نفسه هو عبر تشخيصها، وفي رأيي فإن تشخيص عوارض هذا الهوس سهل يسير، فليراجع كل صاحب قلب غيور حاسد قلبه، ليعرف منشأ تلك المشاعر السلبية التي يمتلئ بها.. ما أسبابها؟ ما أوقاتها؟ ومتى تنشط؟ ليقوم بعملية مراجعة سريعة يتخذ بعدها خطوة جريئة للأمام، تتمثل في "تجاهل" تلك المشاعر، وقمع صوت الأنانية الذي يعلو حتى يخفت شيئًا فشيئًا.

همسة: قد يكون هذا القمع، الوحيد صاحب الثمار، وأول ثماره إحراز صحتك النفسية والاجتماعية والدينية.. فلا تبخل على ذاتك بها.. أنت تستحق أن تكون إنسانًا أفضل!


14 مارس 2015

No comments:

Post a Comment