Friday, March 27, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (22) - "رُؤى من القرآن والعترة (3) / الإسلًامُ، ومسألة العنف" // محمد علي العلوي


• في البدء إشارة:
أشير إلى أنَّ المشروع القرآني مشروعٌ ضخم، وفي ضخامته الكثير من التفريعات والدقائق، وإنَّني لأجِدُ صعوبة في توزيع الأفكار على مقالات متتالية، وفي نفس الوقت فإنَّ المقال الواحد لا يحتمل تطويلًا أكثر ممَّا هو عليه، ولذا، أطلب من القارئ الكريم الانتظار حتى اكتمال الصورة في المقال الأخير مع ملخص على نحو الفهرسة التفصيلية.
__________________________________________________

اضطربت الأحوالُ السياسيَّةُ في المدينة المنورة بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد وصل الاضطراب إلى دار السيدة الزهراء (عليها السلام)، التي هجمت عليها بعضُ الأطراف السياسيَّة لأخذ البيعة من أمير المؤمنين (عليه السلام)، وعندَّما أظهر رفضه، أُخِذَ من الدار ملبَّبًا إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفي هذه اللحظة خرجت السيِّدةُ الزهراءُ (عليها السلام) رافِعَةً فؤادها الطاهر بالدُّعاء على القوم.
 
ينقل الشيخُ المفيدُ (قُدِّسَ سِرُّه) في كتابه الاختصاص إنَّها (عليها السلام) قالت للرَّجلين: "لئن لم تكفَّا عنه، لأنشرنَّ شعري، ولأشقنَّ جيبي، ولأتينَّ قبر أبي، ولأصيحنَّ إلى ربِّي.
فخرجت، وأخذت بيد الحسن والحسين (عليهما السلام) متوجِّهَة إلى القبر (قبر الرسول صلى الله عليه وآله)، فقال عليٌّ (عليه السلام) لسلمان: يا سلمان، أدركْ ابنة محمد (صلى الله عليه وآله)، فإنِّي أرى جنبَّتي المدينة تكفآن، فوالله لئِن فعلتْ لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها وبمن فيها.
 
قال: فلحقها سلمان فقال: يا بنتَّ محمد (صلى الله عليه وآله)، إنَّ الله تبارك وتعالى إنَّما بعث أباك رحمةً، فانصرفي.
فقالت: يا سلمان، ما عليَّ صبرٌ، فدعني حتَّى آتي قبر أبي، فأصيح إلى ربي.
قال سلمان: فإنَّ عليًّا بعثني إليك وأمرك بالرجوع.
فقالت: أسمعُ له وأطيعُ. فرجعت." (الاختصاص، للشيخ المفيد/ ص184).
 
يذهبُ الشِيعةُ إلى أنَّ الخِلافَةَ مِن بعد رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) حَقٌّ خالِصٌ من الله عزَّ وجلَّ لعليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، ومن الواضح إنَّها ليست مجرد منصب رسميٍّ في الدولة السياسيَّة، ولكِنَّها هنا راجعة لمفهوم (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً)، فالقضيَّة قضيَّة حقٍّ وباطل، وهذا بالإضافة إلى ما نزل بأهل البيت (عليهم السلام) من ظلم وغصب للحقوق، ومنها أرض فدك التي كانت تُشَكِّلُ رافِدًا ماليًّا ضخمًا قد أشار إلى حجمه السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في كتابه: فدك في التاريخ/ ص30.
 
إذن.. غصبُ الخِلافة الإلهية، والغصب المالي والتسلط الاقتصادي، والظلم المباشر وبأشكال مختلفة.
 
ولكِن، هناك بُعْدٌ آخر، غلَّبه أميرُ المؤمنين (عليه السلام) على هذه العناوين الثلاثة (إنَّ الله تبارك وتعالى إنَّما بعث أباك رحمةً)!
 
ماذا لو دعت فاطمةُ (عليها السلام)؟
ماذا لو شهر عليٌّ (عليه السلام) سيفه؟
ماذا لو حشَّدَ ضِدَّ السقيفة؟
لِمَ لم يفعل كلَّ ذلك؟ ولِمَ ترك الدفاع عن حَقِّه في الخلافة وحقِّ زوجته في فدك؟
ألم يكن سيَّدُ البلغاء قادرًا على قلب المعادلات بخطبَةٍ جماهيريَّة يوجِّهُ بها العقول كيفما يشاء؟

فلندقِّق جيِّدًا..
يميلُ الإنسانُ إلى الدِعة والراحة، ويُحِبُّ الأمنَ والسلامَ، ولذلك هو يجلس وينام ويتوقَّف ويتأمَّل ويفكِّر ويتبسم، وما إلى ذلك من أمارات تشير إلى طبيعته وحقيقة تركيبه النفسي.
تتغيَّر مظاهر هذه الطبيعة بمجرَّد عروض التوترات أو مقدماتها أو ما يختلقها، فلا يتمكن المعروض من الجلوس ولا النوم ولا التوقُّف إلا من بعد تعب وإنهاك، ولا التفكير الهادئ ولا التَّبسم إلَّا تصنُّعًا.
 
فلنلاحظ هذه الآية المباركة:
(وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا)..
(وَاسْتَفْزِزْ).. أي: أخرج من استطعت منهم عن حالته الطبيعية، ومارس في ذلك مختلف الوسائل والطرق من الصوت وإثارة الجَلَبَة، وحوِّل طبيعية طلب العيش بالمال والأولاد إلى شهوات وأمنيات واغترار بما في اليد وما يمكن لليد إصابته، وإلَّا فإنَّ الحاكمية مطلقة لحسن التقويم (لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وبآية الاستفزاز يتبين لنا معنى قوله تعالى (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، وأمَّا من لا يستجيب لاستفزازات الشيطان فهو في (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ).
 
ينبغي الالتفات بشكل دقيق إلى الإطلاقات في الآيات الكريمة:
(في أحسن تقويم) مطلقةٌ في الوجود الإنساني، و(الاستفزاز الشيطاني) مطلقٌ في معاش الإنسان، وبالتالي فإنَّ كون هذه القضايا مطلقة، تتقدَّم كبرى في القياس، فتقاس عليها مختلف الأبعاد في حياة الإنسان، من سياسية واقتصادية وتربوية واجتماعية وغير ذلك، فتدخل الطرحة الماركسية لننتهي إلى أنَّ التحريك نحو الصراع الطبقي لمجرد الحضور الطبقي، لا يمكن إلَّا أن يكون تحريكًا استفزازيًّا شيطانيًا. فتأمل جيِّدًا.
 
• الحقُّ والقيمة:
لا شك في أنَّ حقَّ الدفاع عن النفس مكفولٌ بميزان العقل؛ إذ إنَّه ليس من المعقول أن يتعرض إنسانٌ للقتل - مثلًا - فلا يدافع عن نفسه، ولكِنَّ هذا الأمر مقيَّدٌ بعدم وجود ما هو أهمُّ من النفس، ومن جهة أخرى فإنَّ القتل ظلمًا لا يسوِّغ في مقام الدفاع عن النفس الوصول إلى حدِّ القتل، إلَّا إذا انحصرت الخيارات فيه، فلا يتمكَّن من دفعه عن نفسه المهدَّدة بالإزهاق إلا بقتله.
 
(وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
 
ولو إنَّنا نرفع قوله تعالى (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، و(إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)، لما كان هناك مُبرِّرٌ لتراجع هابيل عن حقِّ الدفاع عن نفسه، ولكِنَّ القبول بالأمر كان في قبال ثلاثة أمور رئيسية:
 
1- المحافظة على (قيمة) الأخوة من جهة والإنسانية من جهة أخرى (ابْنَيْ آدَمَ).
2- التقوى، والخوف من كون هذا الدفاع عن النفس يستند إلى حُبِّ الدنيا وشهواتها (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
3- اليقين بأنَّ ما يجري في هذه الحياة الدنيا إنَّما هو تقرير يُكتب ليُعرض يوم القيامة فيكون الجزاء الحقيقي (وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ).
 
ليس من المتصور أن يكون هابيل جامِدًا مستسلمًا لقابيل وهو يقتله، ولكِنَّ الذي ينبغي لنا استيعابه جيِّدًا، وتغليبه كثقافة قرآنية حقَّه، هو إنَّ دفاع هابيل عن نفسه لم يكن ليصل لحدِّ القتل، فعدم البسط كان في قبال البسط، وهذا واضح بأدنى تأمل في أنَّ هابيل كان متوقِّعًا لنية قابيل، وقد صرَّح بأنَّ الأمر وإن وصل إلى حدِّ القتل، فأنَّ ردَّ الفعل وحتى لو كان في مقام الدفاع عن النفس لن يصل إلى المثل؛ فالخطُّ الدقيق الفاصل بين القرارين (قرار بسط اليد بالمثل من عدمه) خطُّ قيم ومبادئ وإرث سوف يتركه كلاهما لأجيال بشريَّة متعاقبة تأتي من بعدهما.
 
حتى نتمكن من استيعاب مثل هذه المواقف، فإنَّنا في حاجة لمراجعة المنظومة الثقافية التي تُشَكِّلُ شخصياتنا أفرادًا ومجتمعات، ومن المُصحِّحات قول هابيل بما يحكيه عنه الله تعالى في نفس الآية الكريمة (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ)، والمعنى هو إنَّ الردَّ والانتقام قد يُوكَلُ إلى مقام غير مقام هذه الدنيا وعمَّارها من الآدميين، ولذلك نجد خاتمة العمل الرسالي النبوي القويم جوابًا من الله تعالى للظالمين والمتعالين، ولا يتدخل فيه الأنبياء والمرسلون.
 
- تنبيه: سوف يأتي مقال خاص لمناقشة الوظائف الرسالية للمؤمن من جهة، وما يختص به الله تعالى من جهة أخرى.
 
وهنا مثال آخر..
إنَّه وبالرغم من الأذى العظيم الذي لاقاه نوحٌ (عليه السلام) من قومه، وعلى مدى قرون من الزمن، إلَّا إنَّه التزم الدعوة بشتى الوسائل والطرق (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا * فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا * مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا * أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا * وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا * وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا *ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا * وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا *لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلا فِجَاجًا).
 
وبعد أن مارس معهم الدعوة بوسائل وأنماط مختلفة، ولقرون متمادية، فهو لم يضق حالًا بما كان، ولكِنَّه خشي على الإنسانية من مثل هذه الثقافات المتصلِّبة، فقال (عليه السلام) بما يحكي عنه الله تعالى (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا).
 
إنَّه دعاء بالإبادة، وهي مما يختص به المولى سبحانه وتعالى، ولا يصح لإنسان أن يأخذ مكان الله العزيز الجبار في مثل هذه القضايا التي تمسُّ الأرواح، وهذا ما سوف يأتي بيانه في المقال الذي وعدتُّ به.
 
هكذا كانت السيرة المسدَّدة للأنبياء والأئمة (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين)، كُلُّها في اتجاه إبطال استنكار الملائكة (قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)، فهم بهذا المنهج يقفون في قبال الإفساد وسفك الدماء، فتكون البشرية بأكملها في قسمين اثنين، الأول منهما (مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء)، وأمَّا ثانيهما فهو (قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
 
في مقام إبطال الإنكار الملائكي والاحتجاج عليه، فإنَّ الردَّ يجب أن يكون مقابِلًا أو موجِّهًا لما احتُجَّ به في مقام الإنكار، وقد أظهرت النصوص القرآنية التباعد الكبير بين الخطِّ الرسالي للأنبياء وبين استعمال القوة من أجل هذه الدنيا وما فيها، بل كان التأكيد على إنَّ القوة خيار النهاية، كالكي في العلاج.
 
• مشكلة في البين:
نعاني في عموم مجتمعاتنا من الانفلات الذهني من الأقصى إلى الأقصى المقابل، فعندما يَرِدُ طرحٌ لا يتوافق مع ظاهرة أو فهم أو توجُّهٍ معين، فإنَّ بعض الأذهان تذهب مباشرة لتوجيه هذا الطرح توجيه النقيض المقابل، وهذا خطأ ثقافي أدَّى بنا إلى الكثير من الأزمات والصراعات.
 
عندما يقول الإسلام بالسلميَّة والسلام ونبذ العنف، فذلك لا يعني الاستسلام والخنوع، وليس هو تكريس للضعف والمهانة.
 
يُقِرُّ الإسلام حملَ السِلاح ومواجهة الأعداء، ويأمر بإرهابهم المفضي لتعظيم المجتمع المسلم وعدم استصغاره (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ)، كما وإنَّه يحِثُّ المؤمنين على الاهتمام بالبناء الجسدي، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "علِّموا أولادكم السِباحة والرِماية" (الكافي للشيخ الكليني ج6 ص46).
 
الكلام في هذا المقال حول الأصول التي لا ينبغي أن تُغادَر إلَّا بِأدِلَّةٍ تُشَرِّعُ مُغادرتها لعناوين المواجهة ورَدِّ الحجر من حيث أتى؛ إذ إنَّه في الكثير من الموارد تلتبس الأمور فتُغادَر الأصول بلا حُجَّة شرعية تبرأ بها الذِمَّة أمام الله تعالى، وفي مثال الحجر ورَدِّه يأتي قول الله تعالى (وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ)، وأيضًا (أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
 
وهذا لا يعارض على الإطلاق قوله تعالى (سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّواْ إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُواْ فِيهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّواْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا)، ولا يعارض قوله عزَّ وجلَّ (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
 
الإسلام حارب في بدر، وصالح في الحديبيَّة.. والإسلام صالح معاوية على شروط، وقاتل يزيد في كربلاء.. والإسلام قال لابن معاوية: "مثلي لا يبايع مثلك"، وقبل بولاية العهد في حكم المأمون العباسي..
 
يُرَكِّزُ الإسلامُ ويوجِّه اهتمامات المؤمنين للحكمة وتحصيل مقدِّماتها، للتَّمكُنِ من التشخيص الدقيق للموضوعات، ولذلك قال تعالى (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)، فليس الأمس كاليوم، وقد يكون الموقف السابق غير نافع في موضع آخر، وإن تشابهت الظروف بحسب النظر القاصر، فإنَّ عنوانًا غير ملحوظ يطرأ، فتتغير المعادلة، ومن هنا كانت الوصيَّة بالاحتياط شديدة، خصوصًا في الدماء.
 
وعلى أيَّة حال، فإنَّ موضوع القوة والمواجهة يأتي في مقالات قادمة إن شاء الله تعالى.
 
نرجع إلى التأصيل، وأضع هنا مجموعة من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة في السلم وفي العفو والصفح:
 
- قال تعالى: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
- وقال تبارك ذكره: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً).
- وقال سبحانه: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
 
وفي آية من الآيات الثقافية الفكرية المتقدِّمة والمخالفة لجوهر الثقافات السائدة في المجتمعات البشرية، يقول الله تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
 
فبالرغم من جرائمهم المتكَرِّرة والواضحة والمتعدِّية، إلَّا إنَّ الله سبحانه يرفض الإطلاق والتعميم، ويأمر رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) بالعفو والصفح.
- ويقول أبو جعفر الباقر (عليه السلام): "إنَّ الله رفيقٌ يُحِبُّ الرِفقَ، ويُعطي على الرِفق ما لا يُعطي على العنف" (وسائل الشيعة ج15 ص269).
- وعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: "من زي الإيمان الفقه، ومن زي الفقه الحلم، ومن زي الحلم الرفق، ومن زي الرفق اللين، ومن زي اللين السهولة" (وسائل الشيعة ج12 ص159).
- وعن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين (عليه السلام) قال: سمعته يقول: "إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ثمّ ينادي مناد: أين أهل الفضل، قال: فيقوم عنق من الناس فتلقاهم الملائكة فيقولون: وما كان فضلكم، فيقولون: كنّا نصل من قطعنا ونعطي من حرمنا ونعفو عمّن ظلمنا، قال: فيقال لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة" (الكافي ج2 ص107).
 
هذا، والنصوص التي تؤصِّل للسلم والصفح والعفو أكثر من أن يحصيها هذا المقال، فالشريعة السمحاء ترى - بحسب فهمي القاصر - القوة الحقيقيَّة إنَّما هي في قدرة الإنسان على ضبط نفسه ولجمها عن الانجراف في يتارات الضِدِّ والتأليب، وهذا ممتدٌّ من الداخل الإيماني إلى الخارج في التعامل مع العدوِّ، وهو ما يحتاج إلى تأمُّل وتدبُّر كبيرين.
 
• أمران:
أولًا: في الوقت الذي تؤسِّس فيه الثقافة الشيوعيَّة إلى المواجهة على طول الخط وبنمط واحد هو نمط العنف و(الثورات)، فإنَّ الإسلام يركِّز على تجنُّب الإنشغال بغير البناء الداخلي للمجتمع المؤمن، عقائديًّا وفقهيًّا وأخلاقيًّا، ويُصِرُّ على أهمِّية التجاوز عن الآخر ما كانت فسحةٌ.
ثانيًا: تذهب ثقافات المواجهة إلى ضرورة التسلح لممارسة الانقلابات والتخلص من الآخر، عدوًّا كان أو صديقًا غير موافق، وذلك تحت مسميات الانبطاح والتخاذل والجُبن وما نحوها، وأمَّا الإسلام فيريد القوة للمجتمع المؤمن، ولكِن لإرهاب العدو والمحافظة على كيانه من أطماع الطامعين، وهذه مرحلة مترتبة على الوجودين الثقافي والفكري أخلاقًا وعقيدة وفقهًا، وإلَّا فالقوة مع ضعف هذه الدعامات الأساسية تحوِّلُ العقل إلى شيطنة مدمِّرة كما هو حال الأقوياء اليوم.
 
• وفي الختام..
حتَّى نتمكَّن من الانتِّقال مع أفكار المقالات القادِمة، فإنَّي أطلبُ من القارئ الكريم تدبُّر هذا المقال تدبُّر دراسة وتتبع.
 
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
28 مارس 2015

No comments:

Post a Comment