أنْ تتلاشى الطبقاتُ الاجتماعيَّةُ، فهذا أمرٌ غير ممكن، ما لم تتساوى كُلُّ العقول والنفسيات والأيديولوجيات والخبرات، وكلُّ ما يدخل في تشكيل (أنا) الإنسان، وهذا التساوي غير ممكن على الإطلاق، وإلَّا لفسد المجتمع بقيام حالة السكون الاجتماعي المطلق؛ إذ إنَّ الحركة البشرية حركةٌ تكاملية بين طبقات المجتمع بِكُلِّ ما تحمِلُ الكلِمَةُ مِنْ مَعنى، والمجتمع البشري اليوم يرفض الطبقية، وفي نفس الوقت يؤمن بها، ويريدها ويرفضها، وهذا بسبب مجموعة من السياسات الحاكمة التي لا يمكنها التحرك إلَّا من خلال تجهيل البشريَّة تجهيلًا ظاهره العلم والمعرفة والوعي!
الذي يحدث اليوم، هو ليس أكثر من معالجة للألفاظ المُعَبِّرة عن الطبقات الاجتماعية مع بقاء هذه الأخيرة في عناوينها التي خلقت عليها مع خلق الإنسان.
منعوا ونَفَرُوا ونَفَّرُوا من نظرية السيد والعبد، ولكِنَّهم ينشرون ثقافتها ويمارسونها ويدافعون عنها كحَقٍّ إنسانيٍّ أصيل، وكُلُّ ما في الأمر أنَّهم غيَّرُوا الألفاظَ واستحدثوا الآليات حتى تحوَّلُوا بالنَّظرية مِنَ الفرديَّة إلى المجتمعيَّة، وتمكَّنوا من جعل (العبيد) يدافعون عن (عبوديتهم)، ومن منطَّلقات حقوقيَّة إنسانيَّة!
هذا، وقد تعامل الإسلام مع واقع العبودية بالتقنين والحثِّ على العِتْقِ، وقرَّر حقوقًا يتخلَّصُ من خلالها العبدُ من العبودية، وهذه بحوثٌ تتوفَّر عليها كتبُ الفِقه بشكلٍ مفصَّل، ولكِنَّ هذا (العبدُ) لن يسعى في تخليص نفسه ما لم تتمكن ثقافةُ الحُرِّيَّةِ منه تمكُّنًا علميًّا صحيحًا، وإلَّا فمجرد إرادتها من خلال شعارات وتعبِئات، لن يغير واقعًا، وإن حصلَ خرج (العبدُ) بفضلها من عبوديَّةٍ، فهو إلى أخرى لا محالة؛ إذ إنَّ السلوك المترتِّبُ في الخارج ليس إلَّا ثقافة مستحكمة في العقل.
الإنسان اليوم، وطالما إنَّه ليس من طبقة (الأسياد)، فهو لا يملك شيئًا، وإن توهَّم ملكيَّته لبيت أو سيارة، فإنَّ هذا سرعان ما يتبدَّدُ حلمًا، بمجرد أن يغضب عليه (سيِّده)، وبالرغم من واقعيَّة هذه الحالة إلَّا أنَّ نفسَ هذا الإنسان يدافع عن القوانين التي تُكَرِّسُ لعبوديَّته، بل ويعطيها قدسيَّة كبيرة، ولذلك فإنَّ المجتمع البشري اليوم يرفض المصطلحات القديمة التي تُعَبِّر عن ما يؤمن به ويعيشه ويعتبره قضيَّةً إنسانيَّةً يجب الدفاع عنها وصيانتها دائمًا.
قد يقال بسقوط هذه المقارنة أو المقاربة؛ من حيث كون العبد في الحالة الأولى عبدًا مقهورًا، وفي الثانية مختارًا.
الجواب:
الكلام إنَّما هو في العقلية الحاكمة والثقافة المستحكمة، وليس في مظهر العبودية الذي يتعدَّد بحسب الظروف والمستجدات الثقافيَّة والفكرية، مثل الكهرباء التي قد يُجسِّدُها مِصباحٌ وقد تجسِّدُها غسَّالةُ الملابس، وكلُّ ما تتحول فيه واقعًا في الخارج.
هكذا هي العبوديَّة وغيرُها من المفاهيم.
ليس الحديث عن العبودية والرِقِّ والإماء، ولكنَّني أردتُّ الإشارة إلى الحالة الثقافية العامة، وكيف أنَّها تتشكل بِحَسَبِ ما يُصاغ لها من ظروف وعناوين، كما وأردتُّ الإلفات إلى مستوى الوعي المجتمعي بحالِه!
يتعامل الإسلام مع الطبقية الاجتماعية كحالة ضرورية تقتضيها أمواجٌ هائلة من الفوارق العقلية والتعقُّلية والأيدولوجية وغيرها الكثير مما يدخل في صياغة (أنا) الإنسان، ولِكُلِّ (أنا) ما يناسبها من موقعٍ في منظومة الحركة البشرية، وعليها السعي إليه والتطور منه إلى ما هو أعلى، ولكِنَّ (الأنا) إذا كانت بحجم (عبدٍ) فإنَّها غير قادرة في الحقيقة والواقع أن تكون (سيِّدًا)، إلَّا أنْ تتغير في مكوناتها وتتحرك عبر أطوار ثقافيَّة تنتَّقل من خلالها إلى ما هو أفضل وأكمل.
يقول الله تعالى: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ)، وهذه الآية وإن كانت نازِلةً في خصوص الإيمان والهدى، إلَّا أن إطلاقها ظاهر في مختلف مناحي الشخصية الإنسانية، وأقَرِّرُ الدورة في المراحل التالية:
الأولى: الثقافة المكتسبة من الأسرة والمجتمع الصغير فالأكبر.
الثانية: تَشَكُّل (الأنا).
الثالثة: ظهور (الأنا) في مجمل السلوك.
والمرحلة الثانية هي الشاكلة التي تعمل السلوكيات (المرحلة الثالثة) عليها، ولذلك فإنَّ المظاهر السلوكية كاشفة عن (الأنا) كشفًا دقيقًا، كل سلوك يكشف عن جانب يسانخه، ومن الواضح أنَّ الطموح العلمي والوظيفي والمهني للإنسان هو في الواقع سلوك شخصي راجع إلى شاكلة يعمل عليها، وهي (الأنا).
وعليه، فإنَّ تغيير السلوك بعيد جِدًّا، إن لم يكن مستحيلًا، ما لم تتغير (الأنا)، ومن هنا نفهم البعد التعليلي في قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)، وفي هذه الآية ثلاثة أبعاد رئيسية:
الأولى: البعد الفردي.
الثاني: البعد الجماعي.
الثالث: البعد الإلهي.
أمَّا البعد الفردي فهو (النفس) التي ينبغي لِكُلِّ فَرد تغييرها إلى الأفضل، ولا بُدَّ من تحَقُّق هذه الثقافة في البعد الجماعي، وبعد ذلك تتدخل الإرادة الإلهية فتغير الأحوال العامة للمجتمع، وفي نظري، إنَّ هذه الإرادة تتدخل في صورة السلوك الاجتماعي التابع للثقافة بعد تغيرها.
جاء الإسلام وتعامل مع هذه الحالة الضرورية بواقعية تامة، ولم يذهب في إيهام الناس بإمكان (المساواة) بمعنى تلاشي الطبقات، فهذا محال كما بيَّنا أعلاه، ولكِنَّه عَمَلَ على إنارة عناوين الملكات الحسنة في نفس الإنسان، وهي متناغمة بدقة كاملة مع الأسماء الحسنى والصفات العليا التي تُكَوِّنُ نواةَ الفطرة في كل إنسان، ومن هذه الملكات ملكة العدل والإنصاف، وإذا ما جاء لفظ (المساواة) في نص معصوم، فإنَّه يريد العدل والمساواة، وليس أن يكون العبد كالسيد ولا الرئيس كالمرؤوس.
فلندقق جيِّدًا:
لمقام العبودية حقوق ثابتة، تنعكس على من يشغله، وهذا الذي يشغله يتمكن من التحول عنه لمقام آخر، وهذا متوقف على تغيير (الأنا) أولًا، ثمَّ اتباع الطريق الصحيح المقرر في الفقه الإسلامي، ومن المهم أن نشير هنا إلى أنَّ مقام العبودية لن يبقى شاغرًا طرفة عين أبدًا؛ فالحامل لثقافة العبيد باقٍ بالضرورة، كما أنَّ الحامل لثقافة السيد باقٍ بالضرورة، وكذلك الحامل لكل ثقافة تحتاجها حياة الإنسان لتتحرك، ولذلك فإنَّ الإسلام جاء بمشروع قيميٍّ يستوعب كلَّ الطبقات، وتنتفي معه استحكامات (الأنا الأنانية) التي تظهر الحالة الطبقية صراعًا لا مفر منه كما تذهب الطرحة الشيوعية.
وبعبارة أكثر وضوحًا:
عندما أقول بضرورة الطبقية الاجتماعية، فأنا لا أحصر الأمر في السيِّد والعبد بحسب مفهوم العبودية التي يبحث في الفقه الإسلامي، كما ولا أعني بحتمية التصاق العبودية أو غيرها بشخص فلا تغادره، ولكنَّ المقصود هو وجود هذا الموقع بالضرورة، ومن يشغله فهو مختار في البقاء أو المغادرة، وهذا متوقف على ثقافته بما هي ثقافة، ولأنَّ الإنسان في هذه الدنيا مخيَّر بين التعالي والتسافل، فهو يَمُرُّ في كلا الطريقين بمحطَّات متعدِّدة، منها محطة العبودية التي قد يقبع فيها باختياره، وقد يتجاوزها، وباختياره أيضًا، وأكرِّرُ بأنَّ العبودية المشار لها هنا هي الأعم من مظاهرها في الواقع الخارجي.
وفي جميع الأحوال، فإنَّ الإسلام يركز على الوفاء بحق كُلِّ مقام، ولذلك قال:
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا).
والأمانة مطلق ما يؤتمن عليه الإنسان من مال ووظيفة ومهمة وما شابه، وكذلك الحكم بين الناس، فليس محلُّه دار القضاء فقط، ولكِنَّه مطلق في كل ميدان تحتاج فيه مفردةٌ إلى فصل.
يقوم المجتمع المؤمن على (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، وهذا لا موضوعية له مع انتفاء الطبقية، ولا حاجة لانتفائها مع تحققه، ولأنَّ انتفائها محال، فلا معالجة لمشاكلها إلَّا بتحقيقه، وإن أعرضنا عن ذلك وحصرنا الفكر العام في مسألة (المساواة) المستحيلة، فإنَّ حمامات الدم لن تهدأ يومًا، وإن هدأت فإن قابلية الثوران باقية، ويعيدها أقلُّ تحشيد وتعبئة.
خلاصة القول:
الطبقية الاجتماعية ضرورة حياتية لأمرين، أولهما مقدمة للآخر:
الأول: التفاوت الهائل بين مكونات (الأنا).
الثاني: توقف الحركة البشرية والإنسانية على الحالة الطبقية ومقتضياتها.
وإذا ثبت عندك هذا الأمر، فإنَّ المحور الذي تقوم عليه نظرية الصراع في الفكر الشيوعي قد انهدم، وهذا لا يعني انهدام الشيوعيَّة ثقافة وفكرًا، فهي ليست الصراع الطبقي وحسب، ولكِنَّها منظومة ثقافية تقوم على أركان عِدَّة، ومن أركانها قضية القوة والمواجهة بالعنف في قِبَال الاستبداد ونزعات التملك، وهذا ما يتطرق إليه المقال القادم - إن شاء الله تعالى - من وجهة نظر إسلامية - بحسب فهمي القاصر -.
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
20 مارس 2015
No comments:
Post a Comment