Friday, December 19, 2014

على ضفاف الذكريات (3) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

معاجلة فيصل لإبراهيم حول تحوّله كانت مفاجئة لي، إلا أنني ساندته في محاولة معرفة السر وراءه، ولكن إبراهيم بابتسامته المعهودة تهرّب من الإجابة..


السكن الجامعي

وأصبحنا بدل الإثنين ثلاثة أشخاص عرب نسكن في السكن الجامعي، وكل شخص منا يسكن في سكن مختلف.. أما سكني فهو مبنى ذو طابقين، وكل جهة فيه غرفتين متقابلتين بينهما حمام مشترك واحد.. وفي كل غرفة بسيطة يسكن فيها طالبين، لكل منهما سرير مع طاولة مذاكرة.. كنت في الطابق الثاني وكان روميتي (roommate) - زميل الغرفة - أمريكي من ولاية كنكتكت (Connecticut) في أقصى شمال شرق أمريكا.. من أقصى الشمال الشرقي، إلى أٌقصى الشمال الغربي.. مسافة بعيدة جدًا لهذا الشاب أن يدرس في كلية بعيدة عن مسقط رأسه، إلا أنها حالة طبيعية عند الأمريكان، فبعد الانتهاء من الثانوية يستقل الفرد - رجلًا كان أو امرأة - عن عائلته ليبدأ حياته المستقلة.. وأغلبهم يحاول أن يبتعد كثيرًا أو يكتشف مكانًا جديدًا ليبدأ حياته الدراسية أو العملية..



كان روميتي شابًا أبيضًا طويلًا جدًا، وخلوقًا أيضًا.. لم أتعرض معه طوال فترة سكني معه إلى أية مضايقات، بل كان يساعدني كثيرًا في تعلّم اللغة.. ولكن إحدى الأمور التي أثارت حفيظتي ولم أستوعبها لحد الآن هي عدم اكتراثه - وهي عادة عند الأمريكان الرجال - بالحشمة، فمن الطبيعي جدًا أن تراه خارجًا من الحمام في صورة "ربي كما خلقتني" بدون أي حياء أو حشمة.. وقد حاولتُ مرارًا أن أنصحه بأن يغطّي نفسه دون فائدة، فغض النظر كان هو الحل الوحيد بالنسبة لي..

 
المكتبة

كان وقت الفراغ كبيرًا في الحياة الدراسية، إذ ينتهي اليوم الدراسي حوالي الساعة الثالثة عصرًا، وبعد قليل من المذاكرة يكون الوقت مفتوحًا حتى النوم، خصوصًا أنه لا يوجد حياة اجتماعية تستهلك وقت الطالب.. كذلك، فإن الأمور الملهية من قبيل الهاتف المحمول أو التلفزيون أو الكمبيوتر لم تكن متوفرة بصورة كبيرة كما هي الآن، إذ لا يوجد تلفزيون إلا في مبنى آخر مع طاولة تنس وبلياردو، أما الهاتف المحمول فلم يكن موجودًا حينها، والكمبيوتر كان في بداياته.. كنتُ حينها أذهب لمكتبة الجامعة للمذاكرة، ومنها بدأتُ أقضي أغلب أوقاتي بين المذاكرة والقراءة والرسم.. مع أن الفراغ كان مملًا جدًا، إلا أنه وفّر لي البيئة اللازمة للمذاكرة والقراءة وتنمية بعض المواهب بين أروقة المكتبة..


كنتُ أتزاور مع إبراهيم وفيصل ونقضي بعض الوقت مع بعضنا، وقد اقترح مرة فيصل بأن يطبخ لنا وجبة العشاء "مجبوس لحم"، وذلك بعد قضاء عدة أسابيع مقتصرًا على أكل ما يتواجد في كافيتريا الجامعة من بيتزا جبن، أو أصابع سمك، أو خضار.. كانت تلك الوجبة بالنسبة لي تاريخًا لا يُنسى، إذ قام فيصل بطبخها في سكنه (وكان سكنه يتوفر على مطبخ بسيط يستخدمه الطلبة في طبخ بعض الوجبات الخفيفة).. ومع أن اللحم كان قاسيًا حيث يمسك أحدنا بقطعة منه ويعاونه الآخر على تمزيقها، والأرز أكثر ميلًا إلى البياض منه إلى اللون البني، إلا أنها كانت وجبة لذيذة جدًا لم نبقِ منها شيئًا..


مسجد الصبر

بعد قضاء فترة كافية مع إبراهيم، عرِفنا سبب تحوّله.. كان إبراهيم قد مضى عليه تقريبًا سنة كاملة في أمريكا، وعندما أتى إليها لم يكن ملتزمًا.. حينها كان السنّة في أمريكا - وأغلبهم من وهابية الخليج - (وكان ذلك في أواخر عقد الثمانينات من القرن السابق) يقومون بنشاط دعوي يُسمى "الخروج".. مفاد فكرة "الخروج" هو أن تقوم مجموعة من المصلّين بالخروج من مسجدها إلى مسجد آخر في مدينة أو ولاية أخرى، وفي كل مسجدٍ يمكثوا فيه يوم أو يومين (اعتكاف) ثم يرحلوا إلى مسجد آخر.. ومن كل مسجد يرحلوا عنه يلتحق بهم أفرادٌ من تلك المناطق..

هذه الرحلة تستغرق عدة أيام أو أسابيع، وتنتهي بأعداد كبيرة منهم، وتستمر الرحلة من مسجد إلى آخر حتى يتم الرجوع إلى المسجد الأول.. وتكون رحلة السفر هذه بالسيارات وهي رحلة بسيطة جدًا، فالفرد لا يأخذ معه شيئًا غير حاجيات قليلة.. يتخلل "الخروج" الكثير من المواعظ وقراءة القرآن وحياة سيرة النبي وصحابته وهجرتهم (ولعل فكرة الخروج تصب في فكرة الهجرة).. وكان في منطقتنا مسجدًا يُسمى مسجد الصبر، ونظرًا لكون غالبية أصدقاء إبراهيم من السُنّة، فقد قام يذهب معهم إلى مسجدهم، وخرج معهم ذات مرة في "الخروج"، وكانت تلك نقطة التحوّل لديه. (لي عودة لاحقًا على فكرة الخروج وعلاقتها بالجهاد في أفغانستان).

كان إبراهيم بالنسبة لي حالة نادرة وفريدة، فلم أسمع قط أن شيعيًا تحوّل عن مذهبه، ولذلك كنّا - أنا وفيصل - نقضي معه الكثير من الوقت حوارًا ونقاشًا حول هذا التحوّل.. ومع أن إبراهيم يتجنب الخوض في هذا النقاش، إلا أننا لم نكن لنتركه.. كانت إحدى الأمور التي نقولها له أن الوهابية يُكفّرون الشيعة فكيف ترضى بأن يُكفّر أهلك وناسك، فكان جوابه أولًا: أنه لا يوجد فئة اسمها وهابية، بل كل ما في الأمر أن محمد بن عبد الوهاب كان رجلًا مصلحًا لم يخلف وراءه مذهبًا أو طريقة أو فئة، والاسم الذي يرتضونه هو "أهل السنة والجماعة"، وثانيًا: أنه لم يسمع أي خطاب منهم يكفّر الشيعة بتاتًا وقد قضى معهم فترة طويلة جدًّا، بل حتى أنه دعانا لأن نحضر لجلستهم الأسبوعية ليلة السبت للاطلاع بأنفسنا على صحة كلامه، وقد وافقنا على الحضور..

حضرنا المسجد ليلة السبت، وهو مبنى صغير ذو طابقين، فيه مكان للصلاة ومكتبة ومطبخًا وعدة غرف.. توضأنا وصلينا صلاة المغرب جماعة.. سلّمنا على بعض الحاضرين وأغلبهم من الخليج وقليل منهم من الشام والباكستان.. لفت انتباهي أمرين، الأول: اللباس الخليجي وقصر الثياب وطول اللحى، والثاني: مخاطبة بعضهم البعض بـ "أحببتك في الله الذي أحببتني فيه"، حتى أن أحدهم خاطبني بهذه الجملة وقد شعرتُ حينها بتكلّفٍ وتصنّع لم استسغه. بعد الصلاة جلسنا نستمع للخطيب (من السودان) وكان حديثه عن الصحابة؛ صفاتهم، أخلاقهم، جهادهم.. كان بجانب الخطيب شابٌ ذا لحية طويلة يلعب فيها بأطراف أصابعه ونظرات مريبة يُفرّقها بيني وبين فيصل طوال الخطبة.. بعد الانتهاء من الخطبة، وجّه أحد الحاضرين سؤالًا للشيخ، فأجابه..

بعدها قام صاحب النظرات المريبة بطرح سؤاله ونظراته مصوّبة نحونا: ما رأي الإسلام في قتال الشيعة؟!
 

يتبع في الحلقة القادمة..
 
20 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment