Friday, December 26, 2014

عندما يكون الإصلاح إبداعًا // إيمان الحبيشي

 
 
لبنان.. بلد التعدد الثقافي والعرقي والديني، البلد الذي يقطنه مسيحيون ودروز،  ومسلمون سنة وشيعة، وبحسب بعض المصادر، يصل عدد الطوائف المعترف فيها  والتي ينتمي لها اللبنانيون لثمانية عشر طائفة.
 
يُقال أنَّ في لبنان لكل أمرٍ بُعْد طائفي ومناطقي، وكان الفقر أحد هذه الأمور، إذ ولفترة طويلة كان يعاني شيعة لبنان، من حالة الفقر والعوز والحرمان، بل والتهميش وسوء التمثيل لدرجة العدم أحيانًا، في مختلف مؤسسات وقطاعات الدولة، حتى أنَّ نسبة الأمية كانت تزداد عند الشيعة دون غيرهم، وكان الفقر حالة سياسية يعيشها الشيعة هناك.
 
إنَّ الواقع الشيعي الغارق في الفقر والتهميش، أوجَد مجموعات شبابية طامحة للتغيير، ونتيجة للفراغ  السياسي الذي تركته الطائفة الشيعية في لبنان، أو أُجبرت على تركه، فقد ارتمى الكثير منهم في عمق الأحزاب اليسارية الفاعلة آنذاك.
 
إنّ الكثير من اللبنانيين والمتابعين للشأن اللبناني، يعتبرون عودة الإمام السيد موسى الصدر للبنان عام ١٩٦٠م - وهو ابنها الذي هاجر أجداده منها نتيجة الاضطهاد وعمليات التصفية ضد الشيعة فوُلد وتعلَّم ونشأ في إيران - مرحلة فاصلة في حياة شيعة لبنان بل كل لبنان والمنطقة، إذ إختار هذا الرجل أن يُغير واقع بلده ومجتمعه ربما للأبد.
 
فاجأني وأنا أتتبع حياة هذا الرجل وعمله، أنّه في بداية وجوده مقيمًا في المجتمع اللبناني، لم يكن رجلًا سياسيًا، ولم يتجه للعمل السياسي المباشر بدءًا، إذ أنَّ دخوله للمعترك السياسي، كان نتيجة حتمية لاهتمامه بالإنسان والوطن اللبناني.
 
لقد تركَّز عمله على تغيير الواقع الاجتماعي، الذي يمتلئ فقرًا وجهلًا وحرمانًا، فأنشأ حركة المحرومين التي عَمِلت على قلب حالة العوز الاجتماعي، وزرع الثقة والأمل في روح الإنسان اللبناني عامة والشيعي خاصة. 
 
كان من أوائل أعماله في مجتمعه هو المبادرة لحل النزاع بين المتخاصمين، دون اللجوء للمحاكم المدنية الرسمية. فكان يحكم بإعادة حق اغتصبه أخّ من أخيه بناءً على الوثائق إن وُجدت، وعلى حكم الإسلام وشهادة الشهود، مُنهيًا الأمر في أغلب الأوقات، مع مسحة صفاء بين المتخاصمين.
كما عَمِد إلى القضاء على ظاهرة التسول في مجتمعه، ليس عبر إصدار فتوى تُحرِّم التسول وتدعو لمواجهته، بل عبر عمل دراسة دقيقة حول المتسوّلين والمتعفّفين لعلاجه:  من هم؟ ما مستوياتهم التعليمية؟ من أي منطقة جاؤوا؟ وهل هناك من هم أكثر عوزًا منهم؟ دراسة شملت كل الطوائف، فأثمرت تلك الدراسة عن مشروع (اشتراك الَّليرة)، وعبر جُباة متخصصين تم جمع ليرة لبنانية واحدة شهريًا من كل متطوع. ومن خلال هذا المشروع وبشكل متدرج تم خلق العديد من المشاريع فكانت الثمرة القضاء على ظاهرة التسول تمامًا في المجتمع الجنوبي اللبناني، دون النظر لطائفة المعوزين، حتى أن المطرَّان غريغوار حداد سعى للقاء الصَّدر على خلفية انبهاره من إنهاء ظاهرة التسول، وذلك من أجل مدّ جسور التعاون وتوسعة الجهود الإنمائية اللاطائفية واللاحزبية واللاخيرية (إيمانًا بأن كل تلك المشاريع إنما هي واجب تجاه الإنسان والمجتمع يسعى للنهوض بالإنسان لا للإحسان إليه) على أكبر مساحة اجتماعية ممكنة. وكان أنَّ تمَّ ذلك حقًا، حتى أطلق المطران جورج خضر على الإمام الصّدر صفة (محب المسيحيين) في إشارة لانفتاحه ولتعاونه وللحب الذي صدّره الصّدر للإنسان على اختلاف انتمائه، ولكل من مدّ يده للنهوض بالمجتمع اللبناني عبر تنمية المؤسسات التي تُعنى بالنهوض بالإنسان عامّة.
 
اهتم الإمام الصدر بالمرأة والشباب والأيتام، فكانت هناك العديد من البرامج والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية والحرفية بل والترفيهية التي احتضنت تلك الفئات.
 
لقد مدَّ الإمام الصّدر يده للإنسان اللبناني عمومًا، وللإنسان المهمش المستضعف بناءً على مذهبه خصوصًا، كالإنسان اللبناني الشيعي، لينتشله من واقع مأساوي لا يرتضيه له منصف، حتى بلغ به ذلك الاهتمام أن اقتحم الميدان السياسي، فكان صاحب فكرة تأسيس المجلس الشيعي الأعلى، أُسوة بالمجالس التي كانت لكل طائفة، لتعنى من خلاله بشؤون أبنائها. ثم كان الرجل الذي وقف أمام محاولات تقسيم لبنان، وإغراقه في حرب أهلية استمرت لأكثر من ١٥ سنة. فوُصف برجل السلام في لبنان نتيجة سعّيه الحثيث لوقف الحرب بين أبناء البلد الواحد، رغم دعوته لاعتبار المجتمع اللبناني مجتمع حرب، ومطالبته الدولة اللبنانية بحماية وتسليح القرى الواقعة على تماس مع الكيان الصهيوني الغاصب، ورغم إصراره على حماية المقاومة الفلسطينية على الأراضي اللبنانية، حتى استحقّ في عُرف الموتورين والطّائفيين وأصحاب المصالح الفئوية، أن يُستبعد ويُغّيب عن الواقع اللبناني، بل عن الدنيا بأسّرها!
 
فهل غُيِّب الإمام الصّدر؟
 
إن مشروع الإمام الصّدر الإنمائي والإصلاحي فكرة، والأفكار كما يُقال لا تموت. فرغم الواقع المزري الذي كان يعيشه الإنسان الشيعي في لبنان، ونتيجة الحسابات الطائفية والسياسية، إلاّ أنّ الصّدر تمكّن من خلال رؤية نافذة وعمل جبّار، أنّ يحمل المجتمع الشيعي من أسفل سافلين إلى مقدمة العمل السياسي والاجتماعي، حتى صار شيعة لبنان ونتيجة للعديد من العوامل يتقدّمها (مشروع الصّدر)، من أكثر الطوائف فاعلية في المجتمع اللبناني، وصاروا يتواجدون بقوّة في خارطة لبنان الوطنية. صار شيعة لبنان قوة يخشى كثيرون المساس بها، ولا يتمكنون من تهميشها، بل ربما يلجؤون لها من أجل لبنان أكثر استقرارًا ومنعة، رغم استمرار وتجدّد الكثير من التحديات أمامهم.
 
لم يكن العمل السياسي وحده هو ما أبرز أهمية الوجود الشيعي في عمق المجتمع اللبناني، بل كانت الحركة الإنمائية والإصلاحية الداخلية التي عمل عليها الصّدر لدرجة أنّه حَمل على عاتقه الارتحال شخصيًا لدول أفريقيا التي يقيم فيها لبنانيون أثرياء من أجل تأمين التمويل للعمل الإنمائي الداخلي. فكان له ما أراد بتوفيق من الله، وبإيمان وتكاتف أبناء المجتمع. 
 
نحن هنا مجتمع أكثر تعليمًا، وثقافة وقدرة مادية وبشرية ومعنوية لإجراء عملية إنمائية وإصلاحية داخلية، ثقافية واجتماعية واقتصادية ودينية، تُمسِك بيدنا لترّفعنا لمقدّمة المواجهة السياسية، وغير السياسية الفاعلة، لنكون الطائفة المهمشة التي خرجت من قمقم الاضطهاد لواقع المِنعَة والقوة.. فمتى نبدأ عملية إصلاحنا الداخلية؟
 
 
27 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment