Friday, December 26, 2014

حبيبتي وأخواتها // كوثر جاسم جعفر

 
 
لغتنا العربية لغة جميلة وراقية، وثرية بأكثر من اثنتي عشرة مليون كلمة حسب بعض التقديرات، تشكَّلت من خلالها أروع الأدبيات، وأجزل الأشعار، ويكفينا بها فخرًا أن تكون لغة القرآن المصطفاة. وبالرغم من كل هذا، وبرغم تعدّد القواعد النحوية واللغوية في هذه اللغة الرائعة إلا أنني أقترح إضافة قاعدة جديدة باسم (حبيبتي وأخواتها) على غرار كان وأخواتها.
 
الداعي لهذه القاعدة الجديدة في نظري، جفاف لغة الخطاب الشخصية بيننا، من خلال ملاحظتي المتواصلة لها منذ فترة طويلة لدرجة أنني اعتبرتها ظاهرة سيئة يجب التصدي لها، بل حمَّلت نفسي جزءًا من مسؤولية العمل على الحد منها، ونشر الثقافة البديلة لها بقدر ما أستطيع.
 
وهنا لا أقيس هذه الظاهرة بحيث أعمّمها على الجميع، أو أنفي وجود النقيض الجميل، ممن تقطر أرواحهم شهدا فتنطلق ألسنتهم باللطافة وعذب الكلام، إنما أتحدث عن ظاهرة نستشعر تواجدها بصورة كبيرة بيننا جميعًا، تفوق بنسبتها نقيضتها الأخرى.

فظاهرة الجفاف اللغوي العاطفي ألاحظها في كل زوايا العلاقات المختلفة بيننا، بدءًا من علاقة الزوج بالزوجة كونهم النواة المجتمعية الأولى، مرورًا بعلاقة الوالدين بأبنائهم، والأبناء بالوالدين، والأبناء فيما بينهم، لتتسع شاملةً الأقارب، والأصدقاء، وأي إنسان قد يتم التعامل معه والارتباط معه بعلاقة بأي شكل من الأشكال.
 
ففلانة لا تسمي زوجها باسمه، بل بـ : (هو) أو (فلان) بنبرة تهكمية ساخرة حينًا، وخجولة أحيانًا أخرى، وأحد الأزواج رغم درجته العلمية العالية إلا أنه يكنّي زوجته بـ (البيت) وطبعًا مع نبرة منخفضة وسريعة متحاشيًا في معظم الأحيان ذكرها أو الإشارة إليها خارج المنزل، بالإضافة إلى أن كثيرًا من الخلافات الزوجية التي أقرأ عنها، أو  أسمع بها، أو أشهدها أمامي سببها عدم اختيار الألفاظ المناسبة والكلمات الصحيحة في محلها، وما أكثر القصص التي سمعناها وانتهت بالطلاق وبالهجر وبالقتل أحيانًا بسبب الجفاف العاطفي والتعطش لسماع الكلمات العذبة بين الزوجين.
 
بل إن العديد من الآباء والأمهات يطلقون الألقاب والصفات المؤذية على أبنائهم ويتعاملون بها معهم يوميًا، بحيث تطغى هذه الألقاب والصفات حتى على أسمائهم الأصلية التي أمرنا رسولنا الكريم (ص) بحسن اختيارها لما لها من أثرٍ كبيرٍ على نفسية من يتسمّى بها.
 
وفي نطاق الصداقة والأصدقاء، يكثر أسلوب التعامل بفجاجة غالبًا، وبأساليب جافة وكلمات نابية، من باب (الميانة)، بل لفت انتباهي انتشار الكثير من الرسائل الهاتفية عبر الواتساب وغيره، تشير إلى أن هذه الكلمات الجافة والنابية ما هي إلا دليل على محبة صديقك لك واخلاصه تحت شعار (من حبّك سبّك)، على خلاف من يتعامل معك بالحسنى!!
 
من وجهة نظري المتواضعة، أرى أن للمجتمع بعاداته وتقاليده دورًا كبيرًا في ترسية هذا الجفاف والتصحّر العاطفي واللغوي، فالفتاة في مجتمعنا محرومة بشكل عام من إبداء عواطفها والتعبير عن أحاسيسها حتى تلك البسيطة منها، وإن حاولت - لا سمح الله - جوبهت بالسخرية و(التجعيم) في معظم الأحيان، سواء أكانت فتاة أم زوجة أم أُمًّا، وفي الجهة الأخرى تُنتقص رجولة من يتلطّف ويترقّق في حديثه مع زوجته على اعتبار أنَّ القسوة والشدة هي من صفات الرجولة الأصيلة، وهذا التلطف مذموم في مقاييس الرجولة الشرقية.
 
فإذا انعدم الكلام الجميل وحُجِرَت الألفاظ الجميلة بين الزوجين وهم نواة المجتمع ، فلا نستغرب انعدامها على الأبناء ومن يلوذ بهم كنتيجة.
 
ومن هنا أدعو كُلَّ فردٍ منا، كونَ كلٍّ منا نواةً في هذا المجتمع، وعاملًا مؤثرًا فيه، أن نُعوِّد ألسنتنا على انتقاء أجمل العبارات في التعامل مع بعضنا البعض. فالحياة قصيرة وإن طالت، تتقلب بنا بين مُرٍّ وحلو، ومواعيد الرحيل لا تستأذن أحدًا، فعلام التجلّف في معاملتنا لبعضنا البعض؟!
 
ما الضير في همسي لزوجي بأرق عبارات الغزل، وإطلاق لساني بعذوبة في حديثي معه؟ ما الضير إن ناديت ابني: يا قرة عيني و يا ثمرة فؤادي؟ ما الضير إن همست لأخي وأختي إني أحبكما جدًا؟ ما الضير في أن أبعث بأرق التحايا الصباحية مذيَّلة بابتسامة لصديقتي؟ ما الضير إن قبَّلتُ كفَّ أمي وأبي وكنّيتهما بأجمل الصفات؟ ما الضير لو شكرت العامل البسيط في المتجر أو الخياط أو محطة التزود بالوقود بكلمة لطيفة مع ابتسامةٍ مُمتنّة؟ ما الضير في انتقائنا كلماتنا قبل النطق بها، فنتخيّر أجملها وأفضلها وأقربها للقلب؟
 
لغتنا الجميلة بستانٌ وافرٌ به ما لذَّ وطاب من الأنواع والأشكال والألوان، فلم لا تمتد أيدينا  لتقطف إلا النزر اليسير من هذه الأطايب؟!. أطلقوا أيديكم في هذا البستان الخصب، تمتعوا بثماره اللذيذة، تهادَوها بينكم، وازرعوا أراضيكم بثمارٍ تظللكم وسط قيظ الحياة وحَرِّها. ولمن يعتنق مدرسة أبي العلاء المعري في أسلوبه وطريقة عيشه، أدعوه لتجربة مدرسة إيليا أبي ماضي فثمارها أشهى وأغزر عصارةً وأعذبُ طعمًا.
 
 
27 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment