Friday, December 12, 2014

على ضفاف الذكريات // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
البداية
 
جلسنا على طاولة العشاء في فندق بالأردن.. كنا في رحلة سفر من البحرين إلى أمريكا للدراسة.. كانت تلك رحلتي الأولى إلى هذه البلاد البعيدة.. ومع أني سافرتُ لبلدان عدة، إلا أن هذه السفرة مختلفة جدًا، فهي بداية لمرحلة جديدة.. مرحلة الدراسة الجامعية.. بلاد غريبة بعيدة ولغة وثقافة مختلفة.
 
كان من المفترض ابتداءً أن أذهب إلى بريطانيا، لكن صديق الوالد نصحه بأن الدراسة في أمريكا أفضل، والمصاريف أقل.. إضافة لذلك فإن ابنه يدرس هناك فسيكون خير معين لي في بداية رحلتي إلى تلك البلاد البعيدة.. خيّرني الوالد يرحمه الله بين بريطانيا وأمريكا، واقتنعت بكلام صديقه عن الدراسة في أمريكا، وعلى ذلك عزمت أن أشد الرحال إليها.. التقيت بابن صديق والدي - ولي معرفة بسيطة به من قبل - وأخبرني بما احتاجه تزودًا للسفر.. 

سافرنا معًا.. وكانت أول محطة هي الأردن.. نزلنا فندقًا وذهبنا بعد ذلك الى مطعم الفندق لتناول وجبة العشاء.. بعد الانتهاء من العشاء، طلب صاحبي زجاجة خمرٍ فنظرتُ إليه بنظرة تعجّب واستنكار أنبأتني عن سواد الساعات القادمة.. سألته: ما هذا؟ وجاء الجواب بصورة استهزائية ساخرة أنك ستذهب إلى أمريكا وعليك أن تغيّر من نظرتك وتنفتح على الحياة! فرددتُ عليه: وهذا الانفتاح والتحضر لا يكون إلا بمقارعة زجاجة الخمرة.. وبعد حوار قصير رد عليّ: أوووه لا تمللني.. رددتُ عليه: لن أزعجك، وقمتُ عن الطاولة وتركته..

كانت رحلة طويلة ومتعبة استغرقت حوالي ثلاثة أيام.. فمن البحرين إلى عمّان.. ثم إلى مطار جي أف كيندي في نيويورك بعد رحلة استغرقت أكثر من عشر ساعات.. وصلنا إلى نيويورك ليلًا ومكثنا طوال تلك الليلة في ذلك المطار الكبير المزدحم.. ومن مطار نيويورك إلى مدينتنا الدراسية ثمان ساعات أخرى.. وصلنا أيضًا ليلًا وكان الوقت شتاءً والبرد قاسيًا.. بعد عناءٍ وصلنا إلى الفندق في الليلة الثالثة.. بينما نام صاحبي مشخرًا، قمتُ وصليت إلى ربي ركعاتٍ.. وجلستُ بعدها على سجادة الصلاة.. لم أشأ أن أفارقها.. أفكر في أمري وحالي.. بين ما كنتُ فيه وما أنا صائر إليه.. وبرغم صعوبة هطول الدمع من عيني، إلا أن في تلك اللحظات استرقا خداي بعضًا من الدموع.. أهو الخوف من القادم أم الحزن على ما خلّفت ورائي.. أهو الخوف من هذه الصحبة أم الحزن على فراق الأحبة.. وتذكرتُ حينها قول الإمام علي عليه السلام:
 
تغرّب عن الأوطان في طلب العلا *** وسافر ففي الأسفار خمس فوائد
تفرّج هم واكتساب معيشة *** وعلم وآداب وصحبة ماجد
وإن قيل في الأسفار ذل ومحنة *** وقطع الفيافي وارتكاب الشدائدفموت الفتى خير له من قيامه *** بدار هوان بين واشٍ وحاسد
 
في اليوم التالي ذهبنا إلى السكن الجامعي.. وكانت تلك الأيام أيام الكريسمس ولا يوجد فيه إلا عدد قليل من الطلبة، فأغلبهم يقضي عطلة الكريسمس مع عوائلهم.. كانت لصاحبي غرفة مع طالب آخر ياباني.. تركني عنده واختفى عدة أيام عند أصحابه.. ففرحت حينها إذ تركني وحاولتُ في تلك الفترة أن أتأقلم مع الوضع الجديد.. كان اليوم قصيرًا إذ تغيب الشمس حوالي الساعة الرابعة والنصف عصرًا وبعدها ظلام دامس يحل على أرجاء الجامعة.. كانت الجامعة كبيرة جدًا مكتظة بالأشجار الطوال وتحتاج إلى مسافة نصف ساعة بالباص للخروج من فنائها لترى المحلات والمطاعم وحركة الحياة.. كانت الليالي مظلمة وقاسية.. هدوء موحش وسكون مقرف.. فلا حركة ولا ناس.. ولا مسجد ولا صوت أذان.. 

بعد عدة أيام بدء بعض الطلبة في الرجوع إذ لم يبقَ على بداية فصل الشتاء الدراسي إلا يومين.. وبينما أنا ذاهب إلى مطعم السكن الجامعي في أحد المرات إذ لمحت شابًا عربيًا ذا لحية وقورة وابتسامة جميلة، وبسرعة عرّفني على نفسه.. اسمه إبراهيم وهو طالب من الإمارات.. أخذنا نتكلم ونتحدث.. كنتُ متلهفًا للحديث مع عربي، فلم أدخر شيئًا من الأسئلة عنه وعن الحياة في الجامعة وفي أمريكا بصورة عامة.. وقفنا في طابور الطعام، وبينما نتكلم وإذا به يقول: أنا بحراني مثلك! سألته: بحراني؟! قال: نعم.. قلت له: بحراني بحراني.. قال: نعم، عائلتنا من البحارنة نقطن في الإمارات.. عرفتُ أنه يعني أنه شيعيٌ أيضًا.. وهنا بدأ علىّ الارتياح إذ يبدو من كلامه ولباسه وشكله أنه متدين.. وأثناء حديثنا قال لي أن هناك غرفة صغيرة قد حولوها لمسجد صغير للمسلمين في الجامعة.. لم أتمالك نفسي حينها وشعرت بسعادة كبيرة تملأ روحي، وسألته: وتصلون جماعة.. فأجاب بنعم..
شعرتُ حينها بالارتياح وكان قد حان وقت صلاة المغرب، فدعاني للصلاة في المسجد الصغير.. فلبيت الدعوة متلهفًا.. سألته في "تربة" في المسجد.. قال: لا. قلت له عندي ترب كثيرة، أتريد واحدة؟ فقال: لا يحتاج.. دخلنا المسجد وهو عبارة عن غرفة صغيرة فيها سجادات الصلاة.. طلب مني إبراهيم أن أؤذن، ففعلت.. صدحت بصوتي في تلك الغرفة من هذه البلاد البعيدة علّ صوتي يصل إلى كل الأرجاء.. الله أكبر.. وبعدها أراد مني أن أتقدم لإمامة الصلاة، فرفضتُ وقدمته للصلاة.. تقدم وكبّر.. وإذا به يكتف!
سأكون معكم في حلقات قادمة مع هذه الذكريات التي هي بداية حياةٍ في المهجر حوت الكثير من التجارب.. ذكريات لا أرجو منها سردًا خاصًا لحياتي، بل تجارب تعلّمت منها الكثير في مجالات مختلفة على صعيد الدراسة، والثقافة، والعمل..

No comments:

Post a Comment