Friday, December 5, 2014

خط الرجعة // إيمان الحبيشي

 
 
كثيرة هي المواقف والقرارات، التي نتمنى أن يعود بها الزمن للوراء لنتوقف عن أخذها، او لنأخذها بصورة أخرى مختلفة عما قمنا بها.. كثيرة هي الكلمات التي تلفظنا بها وتمنينا لو يعود بنا الزمان، لنعدَّ حروفها، ونستبعد بعضها.. كثيرة هي الأمور التي أهملناها وتركناها وتمنينا لو عاد الزمان لنتشبث بها.. كثيرة هي الأمور التي تشبثنا بها وحاربنا الدنيا من أجلها، وتمنينا لو يعود بنا الزمان لنطرحها بعيدًا عنا، ونمضي حياتنا دونها.
 
في مراحل عمر الإنسان المختلفة، وبحكم اختلاف تجربته الإنسانية، وبحسب ملامح شخصيته ودرجة نضجه في كل مرحلة، تختلف آلية اتخاذه للقرارات، كما تختلف أولوياته واهتماماته وربما طريقة تفعيل قراراته، كما يرتفع منسوب نضجه العقلي والزمني بما يترك أثره بشكل واضح على طريقة تفكيره، وكذلك على أولوياته في اتخاذ القرارات او مراجعتها.
 
كثيرون يتمنون لو عاد زمانهم للمرحلة الابتدائية، ليتمسكوا بكرسي الدراسة، وليعيشوا مراهقتهم داخل إطار المدرسة لا العمل الذي استعجلوه.. كثيرون يتمنون لو عاد زمانهم ليواصلوا حياتهم في منطقة مسقط رأسهم، ليحموا أنفسهم أصدقاء سوء عرفوهم.. كثيرون يتمنون لو يعود الزمن للوراء ليبتعدوا عن ممارسة خطأ ترك ثقله على سمعة عائلتهم وأبنائهم وذويهم.. كثيرون يتمنون أن تعود شخوص للحياة ليحسنوا إليهم ويبروهم. لكنهم يبقون مرابطين عند محمل الأمنيات، يصفقون كفًا بكف على ما فاتهم، ثم يواصلون ممارسة حياتهم بأخطائها لاعتقادهم ان خط الرجعة خط وهمي لا يمكن لأحد أن يسير عليه، إلا أن هذا الخط موجود لا يختفي، لكنه يحتاج لبصرٍ حديدٍ حتى يتمكن صاحبه من تمييزه واكتشافه والسير عليه. فمن أهمل تعليمه في مراحل عمره الفتية يمكنه أن يسير على خط رجعة تعيده لمقاعد الدراسة كبيرًا.. أتذكر أن النضال في لجان العاطلين قد جمعني بأحد أبناء وطني المثابرين الذي ما توقفت عن ذكره يومًا نتيجة إعجابي الشديد بإرادته وعزمه.. فهذا الشاب الثلاثيني كان ضحية أحداث التسعينات، إذ اعتقل وهو في سن صغيرة جدًا ليبقَ خلف القضبان خمسة سنوات عجاف خسر فيها فرصة تواجده مع أقرانه على مقاعد الدراسة، لتنتهي فترة حكمه بعد الانفراجة في بداية هذه الألفية. وهو شاب قد شارف أقرانه على التخرج من المرحلة الثانوية، لكنه بعزمه وإرادته عاد لمدرسته الإعدادية القديمة، والتحق بصفوفها مع من كان يراهم صغارًا، ليكمل المرحلة الإعدادية كبيرًا وسط الصغار، وليلتحق بالمرحلة الثانوية شابًا وسط مراهقين، ثم ليتم دراسته الجامعية بجدارة رغم أن شهادته لم تشفع له، ليكون موظفًا ضمن وظيفة تناسب مؤهله، إلا أن هذا الشاب يعيش حالة من الرضا بإنجازه الذي وفقه إليه الله، وتحقق بفضل الله لكن عبر قرار اتخذه وصعوبات تحملها ومشاق استهان بها.
 
إن الانسان هو عنصر التغيير وهو أداته، وهو من أكثر العوامل تغيرًا في الحياة، فلا يوجد إنسان ثابت الصفات والإنجازات والرؤى، مهما اعتقدنا او اعتقد هو نفسه بأنه ثابت لم ولن يتغير عبر مراحل عمره المختلفة.. لذلك نجد أن كثير من معارفنا قد تغيرت صورتهم، فنحكم عليهم اليوم من منطلق الأمس، نعيب عليهم ربما ما آلت إليه ظواهرهم، دون أن نأخذ في الحسبان جوهرهم وأسباب تغيرهم، وتبدل أولوياتهم، دون أن نعي خطوط رجعتهم وأسبابها ومشقة السير عليها، فلربما اكتشف أحدهم انه كان متمسكًا بمبدأ خاطئ فغير أسلوب تمسكه، أو صحح مبادئه، أو على أقل تقدير هذبها وأعاد ترتيب أهميتها في حياته، كما فعلتَ أنت وكما أفعل أنا وكما يفعل الإنسان الطبيعي الذي يسير في حياته ببطئ غير محسوس، ويعيش تجربة تراكمية لا يمكن أن يصل لنتيجتها دون أن يمر بمقدماتها.
 
كثيرون يعيبون على الآخرين، تبدل أولوياتهم، أو تغير أسلوب حياتهم.. إنهم ببساطة أدركوا خطأً فصححوه، أو تعبت أيديهم من التشبث بما لم ينفعهم فتركوه.. كثيرون يمتنعون عن تصديق تغير إنسان للافضل نتيجة صورة رسموها عنه باكرًا، فمن كان بعيدًا عن جدران المسجد، يُنظر لتواجده داخل إطارها نظرة ريب وتوجس (وش جابه ده المسجد!) وكأن التوبة حكرًا عليهم، وكأن الرغبة في الله ما خلقت إلا بقلوبهم.. كثيرون يشككون بتبدل لهجة آخرين عرفوا بشدتهم فرُفِض لينهم، وأُعيدوا بجريمة الرفض تلك لقسوتهم وصورتهم الفظة الأولى! وكأن رافضيهم ما أساءوا لحبيب يومًا!
 
إن التغيير سنة كونية تبدأ في داخلك، ولا تنتهي في الكون من حولك. نحن جميعًا كما أنت قادرون على التغيير وهي لعمري نعمة إلهية اختص بها الله الإنسان دون سائر المخلوقات، لذلك فمجتمعاتنا تتبدل وتتغير أحيانًا للأفضل حين يُغير أبناءها أنفسهم للأفضل.. وأحيانًا تتبدل للأسوأ حين يتخلى أبناءها عن التغير للأفضل، ويستسلموا لحياة خالية من تبديل المواقف، وتصحيح الأخطاء، لحياة تسير باتجاه واحد لا خط رجعة فيه.
 
 
5 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment