Friday, December 12, 2014

القيمة الذاتية للعلم.. الوردي مثالًا // إيمان الحبيشي

 
 
أُتابع مؤخرًا وعبر برنامج اليوتيوب مسلسل يروي قصة حياة عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي (1913 - 1995م).
 
أتصور أن كثيرين قرأوا لهذا الرجل أو سمعوا عنه، اتفقوا مع آرائه أحيانًا، واختلفوا معه أحيانًا أخرى، حتى وصمه البعض، نتيجة ما يحمل من أفكار جريئة ناقدة لمجتمعه العراقي خاصة، ولعموم المجتمع العربي والإسلامي.. ورغم اختلاف الكثيرين معه في بعض الجزئيات والتحليلات والتوصيفات إلا أنه يُعدُّ ناقدًا ذي عقلية منصفة إلى حد كبير.
 
شهد الدكتور علي الوردي مختلف الأحداث التي مرت على العراق، كوقوعها تحت السيطرة العثمانية ثم احتلالها تحت عنوان الانتداب الإنجليزي.. وكان يعيش مرحلة زمنية لا تعطي العلم والكتاب أي اعتبار، حيث كان الأهالي يكتفون بإرسال أبنائهم للكتَّاب حتى يتعلموا قراءة القرآن.. وأظن أن ذلك لم يكن مقتصرًا على المجتمع العراقي، فمجتمعنا كان كذلك أيضًا، مكتفيا بتعلم قراءة القرآن وهو ربما ما كانت تقتضيه الحياة البسيطة آنذاك.. وكان الاهتمام الأكبر يعطى لأن يتعلم الشاب حرفة يرثها من آبائه، وأن تتعلم الشابة ترتيب البيت وطهي الطعام لتكون مهيئة للزواج والإنجاب.
 
إن أكثر ما شدّني في الحلقات الأولى من هذا المسلسل هو الصراع الذي عاشه الوردي منذ أن كان طفلًا من أجل أن يحظى بفرصة الدخول للمدرسة، فمنذ نعومة أظفاره تولع بالكتاب والقراءة وكان حلمه يتمثل بأن يلتحق بالتعليم النظامي ليقرأ ويدرس ويتعلم، إلا أن طموحه ذلك اصطدم مع مجموعة من العادات والموروثات فتعثر مرات ومرات.. واستمر لسنوات ممنوعًا من رغبته في الالتحاق بالمدرسة، حتى تمكن أخيرًا من أن يوفق بين التعلم ورضا والدته!
 
ما دعاني للكتابة هو إدراك الوردي لأهمية التعليم في مجتمع جاهل، حينها لم يكن المتعلم موعودًا بالوظائف المرموقة، ولا يعدّه المجتمع إلا (بطرانًا) ترك فرص اكتساب مهنة الأجداد التي ستعينه على الحياة ليلتحق بـ (المكتب) كما كانوا يسمونه، إلا أن شعور الوردي بأهمية أن يكون متعلمًا وذا فكر جعلته يقبل على ذلك الصراع ليصرعه ويحقق إرادته بتوفيق من الله.. وبمقارنة بسيطة لما يجري اليوم على عملية التعليم وقيمة التعلم عند الناس في مجتمعنا فأقول إن ذلك الدافع الذي امتلكه الوردي غالبًا لا يمتلكه أكثر الطلاب تفوقًا في يومنا!
 
فقد اقترن العلم بالشهادة، وتزاوج التعلم بالطموح العملي.. فوقع لقب (طبيب) قد يدفع بأحدهم لتحمل عبء الدراسة، وطموح إنسان ليدخل سلك تدريس الآخرين أيضًا قد يدفعه لإنهاء بكالوريوس بتخصص ما، لكن مَن منا لا زال يدرك بقرارة نفسه القيمة الذاتية للعلم، بعيدًا عن كل الثمار العملية التي نسعى لها حين نتحمل أعباء الدراسة؟!
 
اليوم فإني كثيرًا ما سمعت عبارة موجعة يطلقها البعض بين فينة وأخرى (مدام آخرتها ما بشغلونا.. ندرس لوي؟!) في أكبر عملية تراجع في فهم قيمة العلم الذاتية، إذ صار العلم مجرد (سلّم) للوصول لراتب شهري (يسوا) ومتى ما أزيحت تلك الرتبة المهنية وتقلصت القيمة المادية لتلك المهنة فبالتأكيد ستتقلص مساحة الاهتمام بإحراز العلم وتحمل أعباء التعلم، وبذلك يفتقد مجتمعنا لمتعلمين من الطراز التغييري، متعلمين يدركون أهمية أن يمتلكوا المعرفة من أجل قيادة المجتمع كل المجتمع نحو الكمال الذي يريده له الله. اليوم قد نحفظ ونحن على مقاعد الدراسة آيات قرآنية توضح أهمية اكتساب العلم، وقد نحفظ أحاديث عن النبي محمد وأهل بيتهم عليهم السلام تحث على اكتساب العلم، بل قد نحفظ أبياتًا من الشعر تبجل اكتساب العلم، لكن الأمر لا يعدو أكثر من كونه حفظًا لدرس مقرر سنمتحن فيه لنحرز درجة نجاحه!
 
نعيش تراجعًا إنسانيًا قد لا يكون الأول، فالصراع بين مكونات المجتمع ولد مع قتل قابيل لأخيه هابيل.. وفي سبيل إحراز التقدم بدلًا من الصراع والتشرذم، وفي سبيل التحول من قناصي فرص لصانعي فرص، وفي سبيل التحرر من الموروثات البالية والخاطئة، ومن أجل فهم حقيقي للعقيدة والحياة فنحن نحتاج لأن ندرك القيمة الذاتية للعلم، ونؤمن بعلم يفوق العلم الوظيفي الجامد إلى علم إنساني عام وشامل يكون فيه العلم وسيلة وغاية..
 
لقد تمكن الوردي من تقديم أطروحات ومقالات وأبحاث خاصة بمجتمعه، حتى اتهمه القوميون العرب بالقطرية حين قدم بحثًا حول شخصية الفرد العراقي، وأتصور أن ذلك إنما نتج عن شعور بالمسؤولية تجاه مجتمعه.
 
إن عملية النقد الموضوعية والعلمية تعد أساسًا مهمًا من أسس التغيير التي نحتاجها في مجتمعاتنا اليوم، على أن تكون نابعة من علم اكتسبه الإنسان فوظفه في حالة شعور متقدم بالمسؤولية الدينية والأخلاقية والاجتماعية عند ذلك الناقد.
 
ختامًا أنقل لكم هذه الرواية: ((قال أبو جعفر عليه السلام: يا بني اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان، إني نظرت في كتاب لعلي عليه السلام، فوجدتُ في الكتاب: إن قيمة كل امرئ وقدره معرفته))
معاني الأخبار:  1، ح2
 
 
13 ديسمبر 2014

No comments:

Post a Comment