Friday, July 25, 2014

يا سيدي.. كن صامتًا // أم حسين



صمتها غريب!!

تعيش وسط عالم متعطش للثرثرة، ولكنها تجلس في إحدى زوايا المنزل تحدق في الجميع بصمت، الجميع يتحدث بهدف أو بدون، حتى أمسى ما يميز الإنسان في هذا الزمان هو كثرة الكلام، فمن يتصدر المجالس هو الأكثر كلامًا حتى وان لم يكن كلامه هادفًا.. وعلى الرغم من كل ذلك استمرت جدتي في صمتها مستمتعة، فهي لا تتكلم إلا للضرورة. سمعت صوتها مرتفعًا لمرة واحدة وكانت مازحة. كنت أستغرب صمتها كثيرًا إلا أنني الآن أراه حكمة في زمن اختلت موازينه وأصبح فيه الصامت انطوائيًا واحتل الثرثارُ المراكز الأولى في الانفتاح.

 
ترى لماذا نتكلم!!؟

قدرتنا على النطق نعمة من نعم الله علينا، جوهر بشري لحاجة البشر لمعرفة بعضهم مراد بعض، فحين نتخاطب تنتقل كلماتنا حاملة رسالة نريد إيصالها للمتلقي.  ولإيصال هذه الرسالة بشكل سليم تشترك مع الكلمات النبرة الصوتية وتعبيرات الجسم، والمدهش في الأمر أن الدور الذي تقوم به الكلمات في إيصال الرسالة لا يتعدى نسبة 7% فقط، في حين ينقسم الباقي على النبرة الصوتية بنسبة 38%، و55% لتعبيرات الجسم.

حديث العيون أفصح الحديثين، هكذا يقال...

فعيناك تتحدثان وترسلان رسائل صداها أعمق في النفس، فبنظرة غضب تتراجع عن موقف، وبنظرة ملؤها الحب تسامح، وبأخرى راضية مشجعة يزداد عطاؤك، وتختار أن ترحل بعيدًا لنظرة تجاهل واستصغار، فعندما تتحدث الأعين فقولها القائم حتى وإن خالفها اللسان، نتجاهل كل تلك التعابير والرسائل ونعتمد على ما يؤدي أدنى دور في هذه العملية، وكأنما اللسان هو الأداة الوحيدة للتخاطب، متناسين الدور الكبير والمهم والمؤثر لتعبيرات الجسم.

وكما العينان تتحدثان فكذلك الشفاه، واليدان والكتفان والرأس، بل الجسم كله يتحدث بلغة أخرى، لغة عالمية ﻻ تسمع فيها صدىً لكلمات مسموعة.. لغة حين تجتمع إيماءاتها تتناغم كسمفونية تنبه الأحاسيس لاستقبال رسالتها فتكون مباشرة واضحة ومؤثرة لأنها صادقة.

تفتقر مجتمعاتنا لهذا النوع من السمفونيات وتعج بفوضى وضجيج تجعل الفرد منا مشوشًا، يختصر الإمام علي عليه أفضل الصلاة والسلام مسببات هذه الحالة في حديثين:

(إذا تمّ العقل نقص الكلام)
(لو سكت الجاهل لما اختلف الناس)

فالجاهل ذو العقل الخاوي يقحم أنفه فيما لا يعنيه، لا يعرف متى يصمت ومتى يجب عليه أن يتحدث، ولو أنه ملأ عقله بالمعرفة حينها سيمتلك عقلًا واعيًا، وتتسع مساحات إدراكه وفهمه باتساع حجم معرفته وبالتالي يستطيع السيطرة على جوارحه فيتأنى ويفكر ويحلل فيكون عقله الآمر الناهي فيختار الأداة الأنسب للتعامل مع الموقف، فيرتفع بنفسه ليجنبها ما يؤذيها.

يذخر لنا التاريخ الكثير من الحكم والعبر في ذم الكلام ومدح الصمت فيقال إنه اجتمع أربعة من أذكياء الملوك؛ ملك الهند، وملك الصين، وملك الفرس، وملك الروم ليناقشوا  إيجابيات الصمت وسلبيات الكلام..

فقال أحدهم: "أنا أندم على ما قلت، ولا أندم على ما لم أقل" وقال الآخر: "إنّي إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها، وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني" وقال الثالث: "عجيب للمتكلم، إن رجعت عليه كلمته ضَرّته، وإن لم ترجع لم تنفعه"، وقال الرابع: "أنا على ردّ ما لم أقلّ أقدر مني على ردّ ما قلتُ".

فالصمت فنٌ لا يتقنه الكثيرون، فإجادته من أرقى مراحل ضبط النفس، فصمتٌ عند الغضب ترفع بالنفس عن التلفظ بكلام قاسي أو بذيء وإعطاء الآخر فرصة لمراجعة نفسه. وصمتُك وأنت تواجه مشكله يفتح لك آفاقًا لحلول كثيرة تكون غائبة عنك وأنت تتكلم. وأجمل ما في الصمت أنه يمنحك طاقة قوية للتفكير بعمق في كل ما يدور حولك ويطوّف الفرصة على النفس لتشويه الموقف بكل انحرافاتها لذلك الإنجازات لا تولد في الضجيج والفوضى بل تولد في مساحات الهدوء والتأمل والصمت.

تصرخ الكاتبة القديرة سوزان كين بثقة في محاولة للفت الأنظار لفن الصمت وتقول: (يا سيدي.. كن صامتًا، فالصامتون هم خير من في هذه الأرض.. هم من يصنعون التغيير، ويضيفون كثيرًا في عصر الثرثرة).
 
فالصمت ليس داءًا بل قيمة لا نعرف قدرها، ليس عيبًا بل ميزة نتجاهلها. حين نصمت فنحن نتحدث، ولكن الصمت أرقى أساليب التعبير.
 
فصمتُ جدتي يقول لا تلتفوا لتوافه الأمور ولا تعبثوا في حياة الآخرين، صمتها يعاتبنا حين نختلف وعيونها تقول أحبوا بعضكم فجميعنا راحلون.

فيا سيدي...كن صامتًا
 
23 يوليه 2014

1 comment:

  1. نعم.. إن واحدة من فوائد اللسان هي الكلام، والكلام في الأغلب عند عوام الناس يشكل مشكلة؛ إذ لا يخلو من آفة كذب أو غيبة أو بهتان أو نميمة وما إلى ذلك، ولهذا ورد في الأخبار أن الجوارح تشتكي من اللسان، فيكون السكوت والحال هذه خير من الكلام وأقول عندها وبدون تردد: "كن صامتا"، وقد قيل سابقاً: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، إلاّ أنّ الروايات الشريفة المنقولة لنا عن أهل بيت العصمة ( ع) تقول بأن الصمت أيضاً له آفة من قبيل السكوت عن رد غيبة المؤمن، والسكوت عن نصرة الحق حين تستدعي النصرة الكلام، ولهذا ورد عنهم ( ع ) إذا سلم الكلام من آفته وسلم الصمت من آفته كان الكلام خيراً من السكوت، فما بعث الله تعالى الأنبياء ( ع ) بالسكوت وإنما بعثهم بالكلام.

    وبما أن الكلام - في الأعم الأغلب - لا يخلو من آفة كان الصمت أفضل منه، حتى ورد عنهم ( ع ) قولهم: "ما شيعتنا إلا الخرس"، وعليه فالأفضل لك يا سيدي أن تكون صامتا.

    موضوع جميل ومقال أجمل

    ReplyDelete