Friday, August 1, 2014

سلسلة مقالات (1): التطوير المستمر // ز.كاظم




بدأت طفرة التطوير المستمر في مجال الصناعة في اليابان حيث استفاد اليابانيون من خبرات العالم وليام دمنج الأمريكي -والذي استفادت منه اليابان أكثر من أمريكا- مما جعلها (اليابان) تتفوق على أمريكا في مجال تطوير أداء العمل في الصناعة في عقد الثمانينات، كما تقوم الصين الآن بمقارعة أمريكا في هذا المجال حاليًا.

تقوم فكرة تطوير الأداء المستمر continuous improvements على القيام بتطويرات وتغييرات صغيرة ممنهجة ومستمرة. هذه العملية لا تكلف المصنع أو المؤسسة الكثير من رأس المال يُستخدم فيها أدوات تطويرية مجرّبة ومحددة عوضًا عن صرف الكثير من رأس المال في تطويرات وتغييرات كبيرة قد لا تعود بالنفع على المصنع أو المؤسسة خصوصًا على المدى البعيد. من هذه الأدوات المستخدمة لتطوير الأداء المصنعي هي عملية "الكايزن" -Kaizen- وهي كلمة يابانية تتكون من كلمتين "كاي" و "زن"، ومعنى الكلمة الأولى هو التغيير، والثانية الأفضل فيصبح المعنى "التغيير للأفضل". والمطلوب أن تقام هذه العملية بشكل مستمر على مختلف أقسام المصنع أو المؤسسة بهدف الوصول الى حالة الكمال، مع الإقرار أن الكمال غاية لا تُدرك، مما يجعلك تعيد العملية وتكررها في حركة دائبة مستمرة، فما هو الأفضل اليوم لن يكون الأفضل غدًا خصوصًا مع وجود حالة التنافس بين الشركات والتي تحتم على أي شركة أن تعمل جاهدةً على تقديم الأفضل جودةً من سلعها المنتجة وبأسعار منافسة للمحافظة على موقعها المتصدر.

في الغالب، فإن عملية الكايزن تكون على امتداد أسبوع يتم فيها جمع كادر من المصنع أو المؤسسة لعدد يُفضّل أن يكون بين أربعة إلى ستة أشخاص -يُشكّل العدد الكبير تحدّيًا في القدرة على إدارته وتكثيف تركيزه وجهوده-. يتكون الكادر من خلفيات متنوعة كعامل في الإنتاج ومهندس في الميكانيكا أو التصنيع وعامل الصيانة وغيرهم،  بهدف جمع عقولهم ومهاراتهم المختلفة في كادر يعمل لمدة أسبوع بتركيز على قسم ما لرفع مستواه الإنتاجي أو تحسين الجودة. تقوم فكرة التطوير المستمر على قاعدة أساسية وهي التخلص من waste وتعريفه "أي عمل أو جهد يستدعي وقتًا أو مواردًا أو مادةً لا يضفي على السلعة المنتجة أي قيمة". في المجال المصنعي يُعتبر الـ waste العدو الأول بينما الـ variation أي الانحراف في عملية التصنيع العدو الثاني (فعندما تضع تعليمات وخطوات معينة لتصنيع سلعة ما وتكون السلعة المصنّعة مختلفة في الإنتاج ولو بدرجة بسيطة، فإن ذلك يقل من جودة السلعة المفترض بأن تكون عملية تصنيعها ثابتة تعطي المواصفات المطلوبة من حجم وشكل).

أثبتت هذه العملية من التطوير المستمر قدرة فائقة في حفظ الكثير من المؤسسات والمصانع من الانهيار أو الخسارة عن طريق تخفيض تكاليف التصنيع، بل قد لا تجد مصنعًا لا يحوي هذا البرنامج التطويري نظرًا لأهميته الفائقة في عدة أمور أطرحها على شكل نقاط:

1. أن التطوير المستمر يقوم على خلق ثقافة قائمة على مفهوم التغيير نحو الأفضل وعدم الخمول والركون إلى الواقع فالعالم في حالة ترقّي وتطوّر دائم خصوصًا في عصر التقنية الحديثة التي لا تقبل بالموجود بل تطمح للأفضل والأجود. فما هو متعذر حاليًا ممكن جدًا مستقبلًا. هذه الثقافة مهمة جدًا للمؤسسات والشركات في ظل وجود التنافس القوي القائم بينها. زرتُ شركة منذ عدة سنوات وكنتُ أتحدث مع نائب الرئيس وذكر أن شركتهم كانت على وشك الإفلاس، فتم تعيين طاقم إداري جديد اعتمد برنامج التطوير المستمر واستطاعوا أن ينقذوا تلك الشركة من الإفلاس المحتم.

2. هذه الثقافة تعتمد على جعل الجميع مشاركًا وفاعلًا فهي تقوم على جمع العامل البسيط مع المهندس والمدير بل في بعض الشركات يتم مشاركة رؤساء المصنع أو المؤسسة أو الشركة. مما يخلق حالة من جمع العقول والخبرات لمدة زمنية تكون حصيلتها تطويرًا على المستوى الشخصي والعملي. قاعدة المشاركة قائمة على أن لكل فرد مشارك صوتًا، فصوت المدير يُساوي صوت العامل البسيط.

3. يعتمد هذا البرنامج على مفاهيم واضحة وأدوات مجرّبة تظهر نتائجها واضحة في آخر المشروع نهاية الأسبوع. في الغالب تكون البداية صعبة نظرًا لاختلاف الآراء بسبب اختلاف الخلفية الثقافية والعلمية والمهنية للمشاركين في هذا البرنامج إلا أنه ما إن يقترب منتصف الأسبوع إلا وتجد طاقمًا متناغمًا يتحرك على تحقيق النتائج المرجوة التي تظهر واضحة في نهاية الأسبوع.

4. يقوم البرنامج على عدة خطوات: 1) إذ يبدأ بدورة تدريبية على مفاهيم وأدوات التطوير تستغرق تقريبًا طوال اليوم الأول، 2) بعدها يذهب الطاقم إلى القسم المُراد تطويره ويتم ملاحظة ورصد ومراقبة القسم وتسجيل تلك الملاحظات وتدوينها، 3) ثم بعد ذلك تبدأ عملية العصف الذهني بناءً على التدريب الذي تلقاه الطاقم وما سجله من ملاحظات، 4) ثم بعد ذلك تبدأ أهم خطوة وهي التغيير إذ لا تقتصر العملية على مجرد التفكير، بل تتم ترجمة تلك الأفكار المطروحة في العصف الذهني عمليًا وتجريبها على أرض الواقع. فإذا ما احتاجت العملية -مثلًا- لتغيير وترتيب وضعية الآلات من بعضها البعض بهدف إيجاد ترتيب أفضل فعّال فإن الطاقم يقوم بذلك في الحال. 5) بعد ذلك يتم تقييم وتدوين النتائج المتحققة، 6) وأخيراً يتم عرض ما قام به الطاقم خلال الأسبوع على بقية العمّال والإدارة.

5. إن من أبجديات الدورة التدريبية التي يخضع لها المشاركون هي توضيح حالة مهمة جدًا تقف عثرة وعائقًا في التغيير والتطوير وهي ما تُسمى بالعقلية المتحجرة. وتُعتبر هذه العقلية أصعب بكثير من تحريك آلة تزن المئات من الأطنان. هي عقلية لا ترى إلا واقعها، ولا تستطيع أن تتصوّر واقعًا غير ما تعوّدت عليه، فهي حتى غير قادرة على التخيّل والإبداع لأنها ألِفَت ما اعتادت عليه وأصبح الروتين دمًا يجري في عروقها. والكثير من المشاركين في برنامج التطوير المستمر لأول مرة يكونوا على هذه الشاكلة، لكن ديناميكية البرنامج ونتائج عملية التطوير المستمر خلال ذلك الأسبوع تكون في العادة كفيلة بتغيير تلك العقلية ولو بشكل بسيط، ومع الاستمرار تتغير تلك العقلية الى عقلية منفتحة متحركة.

هذه نبذة بسيطة عن التطوير المستمر في مجال الصناعة وما هذا المقال إلا مقدمة لسلسلة مقالات أدعو الله سبحانه وتعالى أن أُوفق لإكمالها أملًا في تسليط الضوء على بعض المواضيع التي نحتاج للتفكير في سبل تغييرها وتطويرها إلى الأفضل. في مقالي القادم سأتطرق لموضوع العمل التطوّعي لما لهذا الموضوع من أهمية قُصوى في حياتنا الاجتماعية. فالكثير من الأعمال التطوعية تبوء بالفشل نتيجة الرتابة والروتين أو قلة الموارد أو بسبب عدم النظر جديًا في سبل التطوير أو الاكتفاء بالموجود فتصبح الأعمال التطوعية مرمى وعرضة للانهيار والاضمحلال.

نلتقى بكم في الأسبوع القادم مع مقال عن سُبل النهوض بالعمل التطوعي وتطويره..

1 أغسطس 2014

2 comments:

  1. بداية موفقة
    بانتظار بقية المقالات ..والفت انتباه الكاتب لروحية العمل الجماعي التي تجعل كل تلك الخطوات فعاله… هناك هدف واعضاء تمكنوا جيدا من الانتباه لهدفهم والتركيز عليه والاصرار على تحقيقه ..فكان لهم ما ارادوا


    تحياتي

    ReplyDelete
  2. روووووووعه المقال

    وأنا اقرأ نموذج التغيير المستمر لمشروع جماعي وأفكر في ذات اللحظة لمشروع التغيير الفرد لحياته فلو بدأ الإنسان بتغيير أمور بسيطة وبشكل تدريجي ينجح دائما" للتغيير للأفضل

    العقل الديناميكي مهم والتدرج بذات الأهمية ان لم يكن أهم

    أحسنت استاذنا احسنت بارك الله فيك وبالتوفيق في سلسلة المقاﻻت

    مقال متين بوركت

    ReplyDelete