Friday, August 29, 2014

التجنيس .. جريمةٌ لم يرتكبها النظام وحده! // أبو مقداد




البحرين اشتهرت قديمًا بوفرة الأيدي العاملة، شعبٌ حرفي بالدرجة الأولى وقد تلاحظُ هذا الأمر بوضوح في بعض أسماء عوائل الشَّعب الأصليّ في البحرين، مثل عائلة البنَّاء والصايغ والغوَّاص والسَّماك والزَّراع والجزَّاف والصَّباغ .. والقلاَّف والنَّجار والحدَّاد وغيرها العديد من العوائل التي ارتبطت أسماؤها بنوع مهنتها، وهذا إن دل على شيء سيدل على وفرة الأيدي العاملة وامتهان الأجداد للمهن الحرفية التي بنيَ من خلالها المجتمع بأكمله، فضلا عن اشتهار بعض المناطق بمهنٍ خاصة بهم كفخار عالي، ونسيج بني جمرة، وصياغة المحرق.

بتغيّرات معيَّنة، تتحول أغلب هذه العوائل وهذه الحِرَفُ لمجرد أسماء وتاريخ مالها في الحاضر غير أحفاد لا يعلمون سر تسميتهم بهذه الأسماء، فلم يعد الغوَّاص غوَّاصًا، ولم يعد النَّجار نجارًا، ومن المستحيل أن يبقى البنَّاءُ بنّاءًً، فقد تم عزل المجتمع عن مهنه الحرفية، وساهم نفس المجتمعُ بعزل نفسه عنها، واستسلم لوظائف الشركات الخاصة، وتسوُّل وظيفة حكومية من نظام قد يرفض سياسته، وقد يرفض وجوده، بمرتَّبات شهرية لا تساوي أتعابه ومسؤولياته طولَ الشهر، بعكس ما كان يصنعه الأجداد في الزمن القديم، حيث أن رزقهم محسوبٌ بمقدارِ تعبهم واجتهادهم، وصارت المهنة الشريفةُ هي التي يلبس صاحبها البدلات وربطات العنق، والعار لمن مازال عمله صيد السمك من البحر، فهذا حتى لن تقبله به امرأةٌ لو خطبها من أهلها!!

تخلينا تماما عن أصالتنا، وهذه المهن التي تشرفنا بوضعها قبل ألقابنا، صارت من مهام العمالة الوافدة فقط، فالبنَّاء الذي مازال محتفظا بمهنته، صار يرأسُ عشرة عمالٍ آسيويين، هم من يقومون بمهام البناء عوضًا عنه، حتى تحولت هذه العمالة والوافدة اليوم، لعصب البلد، فلو اختلت البحرين من العمال هؤلاء، لأصيب بنكسة شللٍ قد تقصم ظهرَ البلاد، لم تكن هذه خطة مورِسَت ضدنا فحسب، بل كانت خطةٌ نحنُ من صنعناها، ونحن من  عملنا على تنفيذها، حتى صار اليوم، الفخَّار مفخرة عالي يصنعه الآسيويون، والسمك يصطادهُ الآسيويُّون، والبناء مهنةُ الآسيويين، والشعب الحرفي، بات لا يعرفُ كيفَ تُمارسُ حرفته، حتى السوق الشعبية، التي بدأت بسواعد سكَّان البحرين وشعبها، تحوَّلت للسوق اليمنية وبامتياز، ولم تعد للشعبية فيها مكان، أيضا كذلك أسواقُ الأيام التي تتنقل في القرى كل يوم، لن تحتفظ بهويتها إن سمح باعتها للأجانب بالتوغل بينهم، أو إن تنازلوا لهم عن كبائنهم وسلموهم " الصنعة وسرها ". 

نحن أتحنا الفرصة للكثير من الجنسيات المختلفة في العالم، من اختراق أصالتنا هذه من البوابة الاقتصادية، وبرضانا، وأكثر من ذلك، فقد شهدنا العديد من المعاملات تتم عبر ما يُسمى بتأجير البطاقة السكانية ليتمكن التجار من الحصول على تأشيرات " ڤيزا" لجلب عمالة أجنبية حين اشترطت الحكومة نسبة بحرنة لبعض الوظائف، فها نحن نتفنن في تضييع أصالتنا ومكانتنا الاقتصادية، مُسهِّلين كل السهالات للأجنبي أن يقتحمَ مجتمعاتنا، ثم حين اخترقونا بكارثة التجنيس صرنا نصرخُ بالضرر؟!

عاملٌ مُشتركٌ بينَ مشكلة التجنيس السياسي، وبين المشكلة التي نتكلم عنها في هذا المقال، فالأولى تجنيسٌ يعتمدُ على منح الجواز ومميزاته كالسَّكن والوظيفه ويهدف لتغير ديموغرافية الوطن، أما التجنيس الذي نساهم فيه ونمارسه نحن، فهو تجنيسٌ بلا جواز، ويعتمدُ على بيعِ الهوية والتخلي عن الأصالة والتراث، لم تعُد البحرين اليوم صاحبة الأيدي العاملة كما الأمس، بل أصبحت الأيدي العاملة إما عمالا مستوردين، أو مواطنين معدمين من ضنك الفقر والحاجة، فاضطرهم الحال لأن يتحولوا لأيدي عاملة في المهن التي كانت أصلا هي مهن الأجداد الأساسية، فالتجنيس السياسي مشكلة تواجه الوطن ولا بد من وقفه ومحاربته، ولا أظننا قادرون على ذلك إن لم نوقف مد التجنيس الذي نمارسهُ نحن أيضًا، و حتى لو حلَّت الحكومة أزمة التجنيس السياسي، لن نتمكن من التخلص من عملية الاختراق الديموغرافي الذي قد نتعايش معه في الأيام القادمة .. للأسف.



همسة:
في الأزمة الأخيرة التي تسببت بفصل العديد من الموظفين في القطاع الخاص والحكومي، كنت أتمنى لو تم استثمار هذا الفصل للعودة لجادة المهن والحِرف، وتنشيط أيدي المفصولين العاملة، والبحث عن تسعة أعشار رزقهم المدخرة لهم في التجارة، ولكن للأسف الشديد كل الموظفين مصرين على العودة لوظائفهم، والتمسك بحقهم في عُشرِ الرزق فقط!

30 اغسطس 2014

No comments:

Post a Comment