Friday, October 10, 2014

الانتماءُ.. والارتقاء // أبو مقداد




من أصعبِ مايُمارسُهُ الفردُ، هوَ أن لا ينتمي لجهةٍ ما، ويبقى مستقلًّا ذاته وعقله الخاص، طبعًا أن لا تنتمي إلى طرفٍ ما ولا تنحاز له، لا يعني بالضرورةِ أنَّك تُعاديه، أو تكرهه. وتكمنُ صعوبة الَّلاانتماء هذا، في أن مجتمعاتنا اعتادت على تصنيفِ نفسها وفقَ مُصنفات إما فطرية أو عرقية أو مذهبية أو طبقية أو سياسية، أو أو أو، ، ، ولو تعمقّنا في هذه التصنيفات العمومية، سنجد داخل كل تصنيفٍ تصنيفات فرعية، غالبها هي قابلة للزيادة أيضًا.
 
من الطبيعي أن تكون لكلِّ إنسانٍ هويةٌ خاصةٌ به، فبينَ البلدان لا يمكن أن يكونَ وطنك اللاوطن. لا بدَّ أن تنتمي لأرضٍ ما، حتى المحرومين من جنسياتهم، هم واقعا يحملون هويةَ الوطن المحرومين منه، فنقول على سبيل المثال (البدون الكويتيون)، وفي الأديان لا يُمكن أن يكون دينك اللادين، فحتى الملحدينَ دينهُم الألحاد وله خصوصيته وتفاصيله. في النهايةِ لا بدّ من أن تنتمي انتماءً يُشكّلُ هويتك، وهذا الانتماءُ فطري، وحاجةٌ إنسانيةٌ لا يُمكن لبشريٍّ أن يستغني عنها، ولا يمكن أن يقولَ أحدهم أنني لا أنتمي للحق، ولا أنتمي للباطل، فإنه إن لم ينتمِ للحق، فتلقائياً هو انتماءٌ للباطل. هذه التصنيفات العامة لا بدّ منها كي تشكل هوية وكيان كل فرد، ومشكلتنا ليست فيها، إنما مشكلتنا تكمن في الانتماءات المجتمعية، المتفرعةُ من التصنيفات العامة، هل هي بذات الضرورة، ولا يمكن الاستغناء عنها؟ هل يتمكن الفرد أن يكون غير منتمٍ لأي جهةٍ وحزبٍ وتيارٍ مجتمعي بتصانيفه؟ ما الذي سيعيق الفرد من أن يستقلَّ بذاته عن جميع الانتماءات المجتمعية تلك؟
 
المشكلةُ التي تواجهنا هنا هي انعكاس خصائصَ هوياتنا على الكثير من انتماءاتنا المجتمعية. فكما أنك لا يمكنك أن لا تنتمي لدينٍ أو وطن، كذلك في الوسط السياسي مثلًا لايمكنك أن لا تنتمي لفصيلٍ أو حزبٍ سياسي، وهذه من فرضيات المجتمع الخاصة التي سنَّها وألزمَ نفسهُ بها. وإن تجرأت ولم تنتمِ، سيكونُ جزاؤكَ (أوتوماتيكيًا) أن ستصنفُ في الجهةِ الأسوأ في نظرِ كلِّ طرف. فمثلًا إن كنت تقول أني لا أنتمي للحزب (أ)، ولا أنتمي للحزب (ب) وأتفق مع الحزبين في أفكار، وأختلف معهما في أفكارٍ أخرى، سيصنِّفكَ كل حزبٍ منهم أنك تنتمي للحزب الآخر، وستنتمي بعدها وفق حكم محكمة المجتمع!
 
لا مشكلةٌ في أن تنتمي أو لا تنتمي، ففي النهاية هذا خيارك الخاص. قد يحبُّ أحدهم أن يستقلّ بأفكاره لا أن يُفكرَ عنه الآخرون، وقد يفضِّل آخرٌ أن يضع نفسه حيثُ تدلهُ ثقته، فيلتحق بالحزب الفلاني أو التيار أو التنظيم الفلاني. المشكلة تكمن فيما يترتبُ على الانتماء أولًا، وعلى تصنيفِ الآخرين ثانيًا. بحيث أنّكَ حين تكون ضمنَ تنظيمٍ، فلا ضرورةَ لأن تكونَ في مواجهةٍ معَ كل التنظيمات المشابهةُ لك، إذ هذا ما يؤثر سلبًا على العديد من مشاريعنا الثقافية وغيرها، ويُعرقلُ مسيرةَ ارتقائها. جميلٌ جدًا أن تُخلق بيئةٌ تنافسية بينَ الجهات المختلفة ذات التوجُّه المتشابه، ولكن يجب أن لا يتحول هذا التنافسُ لصراعٍ مستمرٌّ أزليٌ سرمدي! وكأن مشروعك لن ينهضَ إلا على إثرِ انهيار المشاريع الأُخرى. وإن صَحَّت هذه النظرية فهذا إن دلَّ على شيء، فإنه يدل على ضعفكَ وضعف مشروعك!
 
مشاريعنا التي نفتقدها، أحد أهم أسباب عدم تمكنها من الارتقاء والاستمرار هو الانتماء لها بطريقةٍ متطرفةٍ لها، ضد غيرها، ففي أغلب قرانا ستجد مأتمين أو ثلاثة، وغالبًا هذا المآتم تعيش صراعات داخلية قديمة، وعلى أمورٍ قد تُوصف أكثرها بالتافهة، كتوقيت المجلس الحسيني، أو مسار الموكب أو خلافات شخصية أو ما شابه. وبسبب هذه الخلافات قد تنشأ تيارات خاصة بكل مأتمٍ وحسينية، كما سيُعاق هدف المأتم في أداء واجبه!
ماذا لو تكاتفَ أصحاب المآتمِ متجاوزينَ خلافاتهم، من أجل الارتقاء بأهداف الحسين التي أقيمت هذه المآتم من أجلها أصلًا؟ كم من المشاريع والإنجازات متوقفةٌ على خلافات لا تغنِ ولا تُسمن من جوع هشَّمت خطط المآتم هذه؟! إن لم تُربِّنا هذه المنابر الحسينية على مشروع الحسينِ الإصلاحي، فما فائدةُ اللطمِ والدمعة في كلِّ عام، الأجر والثواب ونكتفي؟! هل انتمائي للجهةِ الفُلانية عذرٌ ومبررٌ لأن أعيش َ الصراعات مع إخواني وشُركائي وأهلي؟
 
منذ القِدم، ونحن نحترفُ ثقافةَ الانقسام والتحزُّب، فيومًا ما كان الصراعُ أصوليًّا / إخباريًا، ثمَّ  جمريَّا / مدنيًّا، ثم خامنائيًّا / شيرازيًّا، ثم وفاقيًّا / حقيًّا، مسايرةً / ممانعة، ثم ثم ثم ثم.. وطبعًا في كلِّ شقٍ من هذه الأطراف، تفرُّعات أكثر وصراعات أكثر، ولن ننتهي من هذه الانقسامات والصراعات ما دمنا مستسلمين لهذه الثقافة، وما دمنا نسمح لهذه الخلافات أن تمارسَ نفوذها في مشاريعنا.
 
بالإضافة للاستسلام لمسألة الانقسام هذه، يُصنِّف هذا المجتمع أفراده اللامنتمين رغمًا عنهم كما ذكرنا أعلاه، مما يذبح أي فرصةٍ لاحتضانهم أو الاستفادة من موقعيتهم الوسطية المعتدلة. وهكذا بكل أسف يتم قتل المشاريع بسبب الحزبية والانتماءات. ولو هدَّأنا النفوس وتنازلنا عن سيطرة هذه الخلافات، وتجاوزنا المشاحنات، لتمكَّنا من دمج الجهود هذه، والارتقاء بالطائفة ومشاريعها، وتعسر على  الأعداء ضربنا والنيل منا، ولتقدمت مشاريعنا لمئات السنين الضوئية، ولكنا نستسلم لها، والنتيجة أن موسمَ محرمٍ، موسمَ إصلاح الحسين لأمة جده، سنستقبلهُ بإثارته ككل عام، وهذا حال أغلب المشاريع التي تُنشأ للارتقاء، فيذبحهُا الانتماء!
 
 
11 أكتوبر 2014

No comments:

Post a Comment