Friday, October 17, 2014

بضــع كلمات // أم حسين

أنهيت واجبي بسرعة.. احتضنت دفتري وأسرعت نحو طاولة المعلمة.. فتحته ووضعته أمامها، ووقفتُ انتظر تصحيحه، وعيناي لا تفارقانه..
 
حَملتْ قلمها الأحمر وألقت نظرة على الدفتر وقالت: (امممممم متأكدة من إجاباتك؟)، فأومئتُ بنعم.. فبدأت التصحيح، السؤال الأول صح والثاني كذلك..، واستمرت في تصحيحها حتى تنفست الصعداء ورميتُ قلقي خارجًا مع زفرة عميقة رافقت علامة الصح الأخيرة.. مِلْتُ بجسمي إلى الأمام ويداي تتكئان على طاولتها ومددتُ رأسي قليلًا وبحذر نحو معلمتي توسعت عيناي تلقائيًا لأرى ماذا ستكتب لتمدحني ولم أفلح، فَمِلْتُ برأسي يمنة ويسرة في محاولة عقيمة لرؤية ما تكتب.. انتهت.. أغلقت الدفتر وسلمتني  أياه فأخذته مسرعة وقبل أن أجلس على الكرسي فتحته لأقرأ:
 
( لوحظ 28/4/1987)
 
فنظرتُ مستاءة لها وعيناي تتساءلان عن الأسباب التي منعتها من كتابة بعض الكلمات التشجيعية التي كنت أنتظرها كتقدير لجهدي.
 
ظهرًا..
 
رجعتُ إلى البيت بحثت عن قلمٍ لونه أحمر كقلمها فتحت دفتري وكتبت:
 
(ممتازة مرتبة ونظيفة)..
 
أغلقت دفتري واحتضنته من جديد مبتسمة ومطمئنة لشعوري بالرضا، واستمريت في كتابة الكلمات التشجيعية في دفتري في كل مرة لا تكلف المعلمة نفسها عناء التقدير والشكر لأي فرض أنجزه.
 
فكتبت الكثير من الكلمات..
 
كنت حينها طفلة لم يتجاوز عمرها العاشرة، تشعرني كلمات المدح والتشجيع على صفحات دفاتري بالرضا، ولم يكن مهمًا حينها من كتبها ما يهم هو أنني أستحقها.
 
كبرتُ وكبر عالمي وتعددت في حياتي أشكال ونسخ كمعلمتي البخيلة في مشاعرها، الشحيحة في كلماتها الطيبة.
 
فهناك نسخة تعتقد أن الكلمات اللطيفة تفقد رونقها لكثرة استخدامها، ولم تعلم أن لهذه الكلمات سحر خاص يُكيفها مع الموقف فيظهرها بصورة جمالية مختلفة لتلامس النفس في كل مرة بتأثير أجمل وأرق.
 
بخيل آخر قد نصادفه على قارعة الطريق، يرد الابتسامة بنظرة غريبة وعيناه تقول (نعم.. ماذا تريد؟) ناسيًا أن الابتسامة لغة عالمية. وقد تعمل مع النسختين فيكون يومك أطول. وتوجد نسخة غريبة فهي لا تكتفي بكون كلماتها تفتقر للطف بل تزيد الأمر سوءًا  بإصرارها على صباغة كلماتها بلون قاسي ظنًا بأنها ترسم لها شخصية مهابة فتفرض احترامها، وﻻ تعلم بأنه فرارٌ وليس أحترامًا.
 
كيف لي أن أتعايش مع هذا الوضع! فالأمر أكبر من مجرد دفترٍ وقلمٍ أحمرٍ وخط بضع كلمات، فالأمر كبير بكبر الحياة وعميق بعمق النفس البشرية..
 
لطالما تساءلت..
 
ما الذي ممكن أن يخسره الإنسان عندما يردد كلمات المدح والثناء ويجبر خاطر الآخرين!
 
ما الذي سيخسره لو تعلم اللطف في التعامل!
 
ما الذي تعود به الكلمات القاسية علينا وعلى الآخر!
 
مهما كان ارتباطه بحياتنا، سوى أنها تنفر الآخرين وتصنع الحواجز النفسية ليفقد الانسجام تلقائيًا، وتخلق فجوة تزداد مساحتها طرديًا مع القسوة في التعامل.
 
يقول الله تعالى:
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ.
 
ويقول:
 
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ(26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ  
 
الكلمة الطيبة والحسنة مفتاح من مفاتيح النجاح..
 
آندرو كارنيجي صناعي أميركي عصامي يضع إنسانيته في الدرجة الأولى في معاملته مع الآخرين أصبح ثريًا بعد أن بدأ حياته العملية خادمًا في أحد المصانع.. وكان آندرو ينادي بتوزيع فائض الثروات على الفقراء والمحتاجين. هناك من يعتقد بأن سر كل هذا النجاح في حياته هو امتداحه لمساعديه في السر والعلن حتى أنه أراد أن لا يحرمهم من مدحه يومًا فجهز لافتة قبره وكتب عليها:
 
(هنا يرقد شخص كان يعرف كيف يحيط نفسه برجال أفهم منه).
 
لا تندهش قارئي العزيز، نعم ما زال هناك من يُقدر كلماته ويزنها قبل أن يطلقها، ويضع اللطف في الدرجة الأولى ويفصله تمامًا عن صحة او خطأ موقفه، لأنه مؤمنٌ بأن الكلمات الطيبة بإمكانها أن تحل أصغر العقد وأكبرها..
 
فالكلمة الطيبة قادرة على أن تفتح منفذ جديد ليتسلل بصيص نور لنفس محبطة، بإمكانها تهدئة رياح نفس غاضبة وإرواء صحراء قاحلة.  


وبعد كل ذلك أقول بأن:

(الحل الحقيقي لا يتعدى كونه مجرد كلمات طيبة كالتي كتبتها بدل معلمتي).
 
18 أكتوبر 2014

No comments:

Post a Comment