Friday, October 17, 2014

لقد كنتَ // ز.كاظم

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين..
 
 
أوقف تايرون مركبة الفوركلفت بعد أن مررتُ به وقلتُ له مداعبًا: أتريد أن تقتلني! فابتسم تايرون وقال: أتخاف من الموت؟ وبدون تردد قلتُ: نعم. تحدثنا قليلًا عن الموت، ومضينا كلٌ في سبيله..
 
الموت حقيقة لعلها من أوضح الحقائق التي لا يستطيع الإنسان أن يجادل فيها وقد كان الإنسان أكثر شيئًا جدلًا. تلك الحقيقة التي تغيب عن أذهاننا ولو كانت حاضرة لأعدنا النظر في الكثير من الأفكار والسلوكيات التي نقوم بها. لن أخادعك عزيزي القارئ فالموت يرعبني، ولكني أبعده عن ذهني بكل ما أوتيت من قوة.
 
أحد زملاء الدراسة الذين تعرفتُ عليهم في بداية حياتي الدراسية قد وافته المنية قبل سنة تقريبًا.. كانت وفاته صادمة.. لم يشكو من مرضٍ وحياته طبيعية جدًا.. في آخر ليلة من عمره كان يشاهد التلفاز كعادته.. أصبحت زوجته لتلقاه نائمًا نومته الأبدية. وهكذا هو الموت يجرّنا إليه الواحد تلو الآخر. ولا نزال نحاول أن نتجنب ذكره ونتغافل عنه علّه يُخطئنا..
 
تايرون -نفسه- وجالرز أمريكيان -من السود- يعملان في نفس المصنع، وكان الأول مرحًا لا يترك فرصة من متاع الدنيا إلا ويستلذ بطعمها، بينما جالرز كان هادئًا رزينًا متدينًا يرى في المسيح خلاصه.. وكنتُ دائمًا ما التمس بعض الدقائق للحديث معهما في أغلب الأيام.. ويكون الحديث في الكثير من الأحيان عن الدين والعادات والتقاليد.. كانت فكرة تعدد الزوجات تُعجب تايرون كثيرًا، ولذلك فهو دائم السؤال عن ديننا وعاداتنا وتقاليدنا، لا حبًا في الدين وأهله، وإنما حبًا فيما يراه من ملذات الدنيا.. أما الخمرة وأكل الخنزير ففي شريانه يسريان.. أمّا جالرز فكان يُؤهل نفسه ويطمح لأن يصبح قسيسًا يومًا ما.. وكنتُ أقتنص الفرصة لمناوشته عقائديًا، خصوصًا لمعرفتي بطبيعة التدين الأمريكي الذي قد لا يختلف كثيرًا عن التدين العربي.. تدين الراحة والدعة والظهور.. تديّن الوجبات السريعة..

كان ذلك قبل عدة سنوات.. أما الآن، فتايرون لا يزال يعمل في المصنع، وجالرز قد ترك العمل في المصنع منذ فترة.. لاحظتُ على تايرون تغيّرًا في عقيدته، فبعد طلاقه من زوجته بسبب المشاكل التي تصاحب زواج كل أمريكي، تزوج من فتاة صغيرة العمر ومنها تغيرت نظرته للحياة وبالخصوص اتجاه الدين.. فقد أصبح يذهب للكنيسة، وهو أقرب للدين من السابق. أما جالزر، فقد ترك الدين وانهمك في السكر والعربدة.. وسبحان مغيّر الأحوال..
 
لا أظن أن أيًّا منّا بمعزل عن التغيّر، فإذا ما اهتزت القناعة واستقرت مكانها قناعة أخرى، فالتغيّر محتوم.. وكما يقول المثل البحراني "يالله خير وخاتمة خير"..
 
التغيّر الجذري السريع يحصل عند القليل من الناس، وهو عادة ما يكون بسبب صدمة شديدة تهز كيان الإنسان فتنقله من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار أو العكس.. لكن هذا التغيّر قليلًا ما يحدث.. أما التغيّر التدريجي، فهو الخطر الأكبر، إذ يتسلل في نفس الإنسان وعلى فترة زمنية طويلة ليرى نفسه بعد ذلك أنه تغيّر، ولا يختلف إن كان التغير إيجابيًا أو سلبيًا فهذا التغيّر ما لم يكن الإنسان ملتفتًا وواعيًا له، فخطورته كامنة..
 
السؤال: كيف يتسلل هذا التغيّر إلى ذات الإنسان ويغيّر قناعاته وفكره وسلوكياته بدون أن يشعر؟
 
كيف لا يحدث ذلك وطوفان من الأفكار والثقافات والمعلومات تنهال على الإنسان الذي لا يملك دقيقة من وقته للتفكير بسبب مشاغل الحياة ومتطلباتها؟ نعيش في زمنٍ لا يهدأ الإنسان من التوترات على جميع الأصعدة! حتى وسائل الاتصال والمعلومات التي من المفترض أن تكون أدوات للتفكير والهدوء أصبحت وسائل للتوتر والقلق واللا تفكير.. كم من رسالة تمر عليك في الواتساب لا تقرأها من كثرة تدفق الرسائل، غثها وسمينها! كم من الفيديوهات التي إن فتحتها فلا تمر ثواني إلا وتُغلقها.. أكاذيب، خزعبلات، إجرام، قتل، صرعات، صراعات مذهبية كانت أو سياسية أو جهنمية!! والقائمة تطول.. تسوق السيارة فترفع ضغطك أصوات الهرنات.. سمة الكلام الصراخ، في البيت أو في المدرسة أو الشارع!  
 
فكّر، متى آخر مرة قضيت عدة ساعات مع نفسك تفكّر في نفسك وفيما حولك؟
 
ولماذا تفكّر؟ فقناعاتك يتم تشكيلها وصياغتها لك في خضم هذه الفوضى وبكل هدوء وسلاسة..
 
ألم يحن الوقت لتحسم وتملك زمام أمرك! ألم يحن الوقت لتلك الهزة مع ذاتك! هل لا يزال الموت غائبًا أو مغيّبًا عنك!
 
وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ  
 
 
 
18 أكتوبر 2014
 

 

No comments:

Post a Comment