Friday, January 16, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها(12) - "مناقشات وردود (3) / مشكلة الاستبداد" // محمد علي العلوي

 
 
لا بُدَّ لنا من تكرار ذكر المبنى الرئيسي للنظرية الشيوعِيَّة، وهو الاقتصاد وآلة الإنتاج؛ وذلك لأنَّ المُنَظِّر الشيوعي يُرجِعُ له أنواع الصراعات في المجتمع البشري، بل ويرى أنَّ الطبقية ملزومة للاستبداد، وهي في نفس الوقت لازمة للملكية (الاقتصادية) الخاصة، وبقياس المساواة يَتَّضِحُ - بحسب الشيوعيَّة - أنَّ الاستبداد نِتاجٌ حتميٌّ للملكية (الاقتصادية) الخاصة.
 
ولكِنَّ العقلية الاستبداديَّة لا يمكن حصرُها في مجال واحد، فهي ثقافة، والثقافة حالة سيَّالة في حياة الفرد والمجتمع، ولذا نلاحظ العسكريَّ عسكريَّا في حياته، والحمَّالَ حمَّالًا، والمهندسَ مهندِّسًا، ولكِنَّ الجميع يشتركون في ثقافة الاستبداد كُلٌّ بشكل يناسب مهنته.
 
ومن هنا، وجدت الشيوعية أنَّ العقليَّةَ الاستبداديَّةَ حتميَّةُ التحقُّقِ في مختلف لعلاقات بين الناس، فهي هناك بين الآباء والأولاد، وبين الزوج وزوجه، وبين الصغير والكبير، فموقِعُ المُستَبِدُ لا يمكن أن يكون شاغرًا أبدًا!
 
من هذا المنطلق، وبالبناء على هذه الرؤية للمجتمع البشري، يذهبُ الشيوعي لضرورة تحرير الناس.. كُل الناس، من أيِّ قيود استبدادية، بما في ذلك استبداد الآباء بأولادهم، والرجال بنسائهم؛ فالعلاقات الأسرية - في نظر الشيوعي - لا تقوم على أسس الحرية الصحيحة، والسبب هو العقلية الاستبدادية اللازمة بواسطة الطبقية للملكية الخاصة والتحكم البرجوازي.
 
ويذهب الشيوعي إلى أكثر من ذلك، فهو يرى أن احتقار المجتمع للمرأة البغي بحريتها وإرادتها، ليس لأنَّها بغي، ولكن لكونها قد تخلصت من سيطرة من يريد استغلالها في البِغاء والاستبداد بها لمصلحة المال.
 
• مشكلة الاستبداد:
 
لا يمكن لنا إنكار الواقع الاستبدادي الذي تعيشه المجتمعات بشكل عام، وحتى - كما يرى الشيوعي - في الأسرة وعموم العلاقات النَسَبِيَّة والسَبَبَيِّة والوظيفيَّة بين الناس، غير أنَّنا نختلف ثانية في تشخيص المنشأ.

لا نرى أنَّ الاستبداد بسبب الطبقية الاقتصادية أو العرقية له انعكاس على المجتمع البشري كما يعتقد الطرح الشيوعي، ولكِنَّ الذي نذهب إليه هو معلولية الاستبداد لطبقتين من العلل، إحداهما قريبة والأخرى بعيدة، والقرب والبعد في المرتبة.

أمَّا العلل القريبة فمتعددة متكثرة، نجدها في علاقة صاحب التجرِبة العُمُرية الطويلة مع من دونه (أكبر منك بيوم، يفهم أكثر منك بسنة)، وبالتالي فعليك الاستماع لما يقول والحذر من مخالفته.

ونجدها بين المثقف ومن دونه في المرتبة الثقافية، وكذلك بين المُنَظِّرِ وبين من يأخذ بتنظيراته، وبين الحكيم والعامة..

أستطيع القول بأنَّ أرضية الاستبداد تعلن استعدادها للإنبات مع قيام عنوان (المُتَفَضِّل والمُتَفَضَّل عليه)، وهذا الفضل والتفضُّل أعم من أن يكون ماديًّا اقتصاديًّا أو عقليًّا أو عاطفيًّا أو أيَّ شيءٍ آخر.

أعتقِدُ أنَّ التنظيم الشيوعي ومنذ لحظته الأولى عاش طور الاستبداد العقلي، وربَّما العاطفي أيضًا، وأُرَجِّحُ أنَّه حاول التخلص من مواجهة النقض الذاتي بالإكثار من إطلاق شعارات الحريَّة والتحرر وما نحو ذلك، وإلَّا فالملتزم بالنظرية الشيوعية وأدبياتها هو في الواقع يلتزم التنظيم الهرمي (التلقائي) للحزب، ولا أتصور الحاجة إلى استطراد في الاستدلال على هذا الأمر، فالثورة البلشفية كانت تحت (إمرة) فلاديمير لينين، ويده اليمنى جوزيف ستالين، فهي وبشكل طبيعي تلقائي برجوازية ثورية استعملت بلوريتاريا البلاشفة لإقامة نظام اشتراكي جديد!

فالغاية الشيوعية، وهي مجتمع الأمن والسلام في ظل اللاطبقية، لا يمكن إدراكه إلا بممارسة أقسى درجات الاستبداد الطبقي وأكثرها شراسة، وإذا كان الاستبداد في الأسرة معلولًا للاستبداد الطبقي، فإنَّ العِلَّة باقية في (الثورة) وبالتالي فالمعلول باقٍ ببقائها، والنتيجة هي استحالة التلاشي الطبقي.

إذن، نختلف مع النظرية الشيوعية في حصر عِلَّة الاستبداد، إذ أنَّنا نرى تعدُّدَها وتكثُّرَها في عناوين قد لا نتمكن من حصرها، ثُمَّ إنَّ الاختلاف الجوهري يأتي عند الحديث عن العِلَّة البعيدة التي نعتقد بها في عمق بنائنا الإسلامي، وهنا يحتاج المقام إلى مقدمة استدلالية موجزة.

عندما نتحدث عن الطرح الشيوعي في ما يخص الطبقية والاستبداد، فإنَّ الأمر لا علاقة له بالجنبَةِ الإدارية، فهي ضرورية بحكم العقل ولا يمكن حتى مجرد التفكير في إلغاء الأسس الإدارية وإن اختلفت النُظم والمناهج.

وإنَّنا نرى الإنسان وفي أيِّ موقع كان، قابلًا للظهور بثقافة البرجوازي المستبد، ولكنَّنا لا نراها حتميًّةً على الإطلاق، فالتاجر الحُرُّ المُقسِطُ المنصف موجود بيننا ولا يمكن إنكاره، وكذلك لا يمكن إنكار وجود المتسامح الرحيم العطوف من مالكي المصانع وأدوات الإنتاج، والوقوع ينفي معلولية الاستبداد للطبقية من جهة، ويدعو من جهة أخرى لطرح السؤال التالي:

إلى ماذا ترجع الثقافة الإدارية:

أولًا:
يقول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: (لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ).

هنا حقيقة مُهِمَّة، وهي إنَّ صاحب النِعمة يشعر بالخوف من طمع الآخرين، ولذلك يلجأ إلى حماية نفسه من أخطارهم، وهذا رَدُّ فعل متعقل في نفسه تمامًا، ولا أستبعد أن يكون البعثُ الشيوعي على الثورات والتمرد وما نحو ذلك سببًا في ازدياد قوة الأنظمة المستبدة وارتفاع مستوى استبدادها.

في الآية الكريمة يوجه الله سبحانه وتعالى لأخلاقيات الإنسان في تعاطيه مع أصحاب النِعَم، ومع سائر المؤمنين، وهذا خطابه في الآية الكريمة لرسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فمن جهة ينهاه عن النظر لما بيد غيره، ثم يأمره بخفض جناحه لعامة المؤمنين، وهذا - في نظري - ما أسكن الحيرة قلوب مختلف الأطراف في تعاملها مع الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).

ولا يخطأ القارئ الكريم، فموضوعية الأزواج في الآية كريمة مصداقية، وإلا فالنهي وارد على مفهوم الطمع.

ما أريد قوله، هو أنَّ الاستبداد قد تخلقه البروليتاريا في عقلية الإدارة، ثُمَّ إنَّها تحكم عليها بالبرجوازية المستبدة، وهذه المسألة تحتاج إلى تفكير عميق مع توقف تحليلي موضوعي دقيق، وليت المقام مقامه.

ثانيًا:
يقول عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).

ويقول تبارك ذكره: (وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلا رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَرًا * وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا * قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا * لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنكَ مَالا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِّنَ السَّمَاء فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا * وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا * هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا).

إنَّ للطمع والتمحور على الذات ميادين كثيرة، والميدان الاقتصادي واحد منها، غير أنَّها كلها معلولة لعلة بعيدة هي (شهوة النفس)، وهذه الشهوة إحدى البواعث النفسانية:

1- العلم، وحدُّ الاعتدال فيه الحكمة، والإفراط جربزة، والتفريط جهل.
2- الغضب: وحدُّ الاعتدال فيه شجاعة، والإفراط تهور، والتفريط جُبن.
3- الشهوة: وحدُّ الاعتدال فيها عِفَّة، والإفراط شره، والتفريط بلادة.
4- العدل: ويتحقق بقدر ما يقترب الإنسان من حدود الاعتدال في البواعث الثلاثة السابقة.

وبالتالي فإنَّ القضية راجعة إلى حال النفس من حيث التهذيب والتسافل، فإن هُذِّبَتْ قهرتْ غرور المنصب وعُجب الثقافة وتعالي المال وما نحو ذلك، ولكِنَّ تسافلها يظهر وبِقَدَر التسافل استبدادًا ضِدَّ كُلَّ مقدور لها.

ما أفهمه هو أنَّ التلاشي الطبقي - إن وقع - لا أثر له على تهذيب النفس؛ إذ إنَّ دواعي الصراع النفسي الذاتي لا تزال قائمة، ولا يمكن إلَّا أن تكون كذلك مادام الإنسان مفكرًا.

يبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:

بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟

هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟

نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..


17 يناير 2016

No comments:

Post a Comment