Friday, January 30, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (14) - "مناقشات وردود (5) / الصراع ورفع الحاجة النفسيَّة" // محمد علي العلوي

 
 
أيُّ حركة من الإنسان فإنَّها تصدر لحاجة يعيش صراعها تحت عنوان وجوده التكويني، ولا حركة إلا وتتبع حاجة، ولكنَّ هذه الأخيرة لا تحدِّد الحركة الرافعة لها، وإنَّما تحدِّدها قوَّة العقل المودع في الإنسان، وكلَّما حدَّتْ الحكمة فيها، كلَّما هيمنتْ على دائرة الخيارات، وتمكَّنت من الدقَّة في اختيار الأصوب.
 
هي معادلة غاية في التعقيد، فلو إنَّنا نسأل عن الحاجة الدافعة لاختيار هواية من الهوايات المعروفة، ولتكن (جمع الطوابع)، لكان التفكير أوَّلًا في سبب عدم اختياره هواية أخرى مثل (الفروسيَّة)، ولماذا كانت (جمع الطوابع) تحديدًا، وما هي المتعة التي يولِّدها ارتفاع الحاجة عند جمع الطوابع وترتيبها وتصنيفها؟
 
مجموعة كبيرة من الأسئلة ترِدُ على موضُوعيَّة الحركة، ومنها: مدى ارتباطها بالغير!
 
قد تنشأ حاجة في النفس للكون في شخصية تشبه أوَّل وأشهر جامعي الطوابع البريدية الدكتور جون أدوارد جري، وهو يتصفح مُصنَّفه الفريد في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ومن هنا يقع الخيار على هواية جمع الطوابع، غير إنَّ سؤالًا جديدًا يفرض نفسه بقوَّة، وهو: لماذا كان الانجذاب للدكتور جون، ولم يكن لغيره من المشاهير؟
 
عندَّما يُقَرِّرُ الشيوعيُّ الطبقيَّةَ منشأً أصيلًا للصراع البشري، فإنَّ السؤال التحليلي يرد بموضوعيَّة تامَّة: لماذا تكون الطبقيَّة سببًا للصراع؟
 
لو إنَّنا نمتلك آلية إعلاميَّة تثقيفيَّة قويَّة، فهل نتمكن من خلالها أن ننشر ونرسِّخ ونجذِّر لثقافة جديدة تقوم على الفهم الأُموي للآية الكريمة (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، وهو: إنَّ الحاكم حاكم بمشيئة الله تعالى، والعبد عبدٌ بإرادة إلهيَّة سابقة، وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سلام قال: قال حذيفة بن اليمان، قلتُ: "يا رسول الله، إنَّا كُنَّا بِشَرٍّ فجاء الله بخيرٍ فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شَرٌّ؟
قال: نعم.
قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟
قال: نعم.
قلت: فهل وراء ذلك الخير شر.
قال: نعم.
قلت: كيف؟
قال: يكون بعدي أئمَّة لا يهتدون بهُداي، ولا يستنُّون بسنَّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس.
قال: قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركتُ ذلك.
قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع".
 
هذا من الأحاديث التي يرويها السنَّة في صحاحهم ويرفضها الشيعة رفضًا قاطعًا، ولكِنَّها وعلى أيَّة حال، لا تزال فاعلة بقوَّة في منظومة العقليَّة الحاكمة أنظِّمةً وشعوبًا.
 
يبدو إنَّ النظرة الشيوعيَّة لا توافق على إمكانيَّة السيطرة على نزعة الصراع الطبقي بأيِّ حال من الأحوال، وهنا يرد سؤال:
 
هل يحتاج العمَّال إلى تحريك وتهييج لمواصلة الصراع؟
وهل للبرمجة الثقافيَّة المضادَّة أهليَّة السيطرة على شريحة من العمَّال المعوَّل عليهم في الصراع الطبقي؟
وإذا كان الجواب بنعم، فما المانع من أن تكون السيطرة على النسبة الأكبر وعزل الباقي؟
إذا كانت ثورة البروليتاريا طبيعيَّة حتميَّة، فما الداعي لتبنِّي الحزب الشيوعيّ مهمَّة التنظير لها ومساندتها؟
 
يقولون بأنَّها ثورات غير منظَّمة، وتحتاج إلى رؤى واستراتيجيات، وهذا ما يتكفَّل به المُنَظِّر الشيوعي.
 
يبدو لي إنَّ الطبقيَّة واضحة بين البروليتاريا والمُنَظِر الشيوعي الذي يريد السيطرة من الأعلى على حركة العمَّال وتوجيهها بحسب ما انتهت إليه رؤاه، غير إنَّها طبقيَّة ثقافيِّة، ولا أراه تختلف على الطبقيَّة الاقتصاديَّة، وهنا بعض ممَّا قاله فلاديمير لينين، قائد الثورة البلشفيَّة:
 
- إنَّ شعبًا لا يُجيدُ استخدام السلاح، ولا يسعى لاستخدامه, لا يستحقُّ أن يُعامل الَّا معاملة العبيد.
- الثورة تعتبر مستحيلة، ما لم يكن هناك حالة ثوريَّة, وليست كُلُّ حالة ثورية تقود إلى ثورة.
- عندَّما يقوم شخصٌ بالثورة، فلا يوجد جدولٌ زمنِيٌّ, بل يجب عليه الأتِّجاه إلى الأمام.
- لا يُمكِنُ التنبؤ بوقت الثورة، أو تطوُّرِها, فما يحكم الثورة هو قانونها الخاص.
- لن يكون بأمكانك القيام بثورتك وأنت ترتدي القفازات البيضاء.
 
أراها وغيرها من الخطابات الشيوعيَّة، وأضيفُ إليها النازيَّة والفاشيَّة خطابات تعتمد السيطرة التثويرية بالتركيز على باعثين أساسِيَّين من البواعث النفسانية الأربعة، وهما: باعث الغضب، وباعث الشهوة، وذلك بتحريك كُلِّ واحد منهما صوب الإفراط، فالتهور في الأول، والشره في الثاني.
 
كما وتعتمد تِقنيَّتين مهِمَّتين، تقنيَّة العامل الجماهيري، وتقنيَّة التنظيم بشكليه الهرمي والعنقودي، وبهاتين التِقنيَّتين يتولَّد في الفرد شعورٌ بالقوَّة والمنعة، وهذا الشعور ضروريٌّ في مرحلة التحريك المُوجَّه.
 
وكيف كان، فإنَّ الجماهير في النظر الشيوعيّ، وقبل الوصول إلى نقطة الاضمحلال الطبقِيّ، يجب السيطرة عليها وحمايتها من أيِّ إفساد دينيّ أو ما يشبهه من أطروحات نقديَّة في ميدان مواجهة الظلم والاستبداد وغير ذلك.
 
يقول كارل ماركس، كما ينقل أوجست كونو في كتابه (ماركس وإنجلز، حياتهما وأعمالهما) – ترجمة: إلياس مرقص: "فالعدوُّ الحقيقيّ للإنسانيَّة والتقدُّم ليس هو الجمهور، بل نزع إنسانيَّة العلاقات الاجتماعيَّة، الذي يُنجِّبُه النظام الرأسمالي، وإنَّ تحويل هذا النظام لا يمكن أن يكون نتاج قِتَالات آيديولوجية، كتِلك التي يخوضها النقدُ النقديُّ، بل فقط نِتاج النضال الثوريّ الذي يخوضه الجمهور".
 
ومن الفلاسفة الألمان المعاصرين لكارل ماركس، برونور باور، وكان من أصحاب العقليات المعقدّة الحادّة، يقول في خطاب أرسله لكارل ماركس:
 
"الكارثة أو النازلة أكبر من تلك التي صاحبت دخول المسيحيَّة إلى العالم، ما يشهده العصر، هو المعركة النهائية الأخيرة مع عدوِّ البشريَّة الأخير... والخطيئة التي يقترفها الإنسان ضدَّ نفسه والتي هي أكثر صعوبة، هي إنَّ الإنسان لا يستطيع تجنب المعتقدات الدينيَّة، بل يراها في العين الإنسانيَّة، ويُغلِق عينيه ويغوص فيها قبل عمله الخاص، والشيء الوحيد الذي يمنع التحرُّر الكامل هو الخوف من أن يفقد الإنسان ذاته، قبل أن يكسب ذاته مرَّة أخرى" (نقد فلسفة هيجل/ كيركجورد – فويرباخ – ماركس، للدكتورة فريال حسن خليفة).
 
في تصوري إنَّ الرأسمالية أصابت الإنسان يإعاقة كبيرة في قدرته على الخروج من دائرة (الرزق والمعيشة)، فهي قد حوَّلتْه إلى آلة صَمَّاء تعمل للإنتاج، ولذلك نرى الإجابةَ واحِدَةً فاردَةً على مجموعة الأسئلة التالية:
 
لماذا تتزوج؟ لماذا تُنجِب؟ لماذا تتعلم؟ لماذا تسعى للشهادة الجامعية؟ لماذا تبحث عن وظيفة؟ لماذا تتمسك بنظام الراتب التقاعدي؟
 
الإجابة على هذه الأسئلة لا تخرج عن (طلب المعيشة)!
 
هذا وما أفهمه هو إنَّ الزواج لغاية سامِيَة موقعها المحافظة على التطور النوعي للإنسان روحًا وعقلًا، والإنجاب لتجنب الأخطاء التربويَّة التي وقع فيها الجيل السابق، والعلم يُطلب لنفسه، فهو المائز الحقيقي للإنسان عن غيره من بني جنسه (على حّدِّ ما وصل إليه الإدراك البشري)، والوظيفة لغاية الإبداع العلمي والمساهمة في تطور الإنسانية.. وهكذا، غير إنَّ ثقافة المال والمعيشة قد سيطرت على مفاصل العقليَّة الحرَّة، وحلَّت مكان السمو الإنساني.
 
وأمَّا الشيوعيَّة فاجتهادها في تذويب الفرد في جماهير (الثورة) التي تبرِزها المستحقَّة الوحيدة للحياة الحرَّة، فلا للنَّقد ولا للتنظير ولا لشيء غير حمل السلاح والمواجهة، ومن يشذُّ فهو خائِنٌ جبان!
 
في حالتيِّ الرأسمالية والشيوعيَّة، أتمكن من إرجاع حركة الإنسان إلى إرادة الغير، وإن ظهرت على خلاف ذلك.
 
أمَّا ما نعتقده، فإنَّ الإسلام منظومة إنسانية لا تمارس أيَّ نوع من الضغط على الإنسان، سواء دخل في دائرتها أم لا، وذلك لأنَّه قائم على نشأتين، إحداهما الدنيا، والأخرى الآخرة، وفي هذه الثانية يقوم الحساب على ما كان في الأولى.
 
يقول تعالى: (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ).
 
ويرفض الإسلام ممارسة التسلُّط بمختلف صنوفه، فيقول: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ).
 
وإذا اختار الإنسان هذا الدين، فإنَّه يلتزم بما يقتضيه الإيمان به: (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).
 
وفي القضايا الخطيرة والمحورية، فإنَّ الأمر للحكيم العلَّام، ولا يسمح فيها للاجتهادات الشخصية التي قد تنتَّهي بالإنسان إلى نتائج كارثية: (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
 
وقال عزَّ وجلَّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).
 
وعند غياب القيادة المعصومة المُؤَمِّنَة من الوقوع في المهالك، فإنَّ الإعمال لقول الإمام الصادق (عليه السلام): "الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة".
 
وقول النبيِّ الأكرم (صلى الله عليه وآله): "الاُمور ثلاثة: أمر بيّن لك رشده فاتبعه، وأمر بيّن غيّه فاجتنبه، وأمر اختلف فيه فردّه إلى الله".
 
فالإسلام يحترم الإنسان، ويحترم خيارات الإنسان، ولا يفرض عليه ضغوطًا، ولا يصادر قدراته العقليَّة، ولا يزجُّ به في مواجهات لا يضمن فيها إحدى الحسنيين، ولذلك نجده في حالة تركيز على أن يكون الحراك نابعًا من القوَّة العقليَّة للإيمان الحقيقي (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ).
 
وهنا يُسجِّل الإسلام نقطته الفارقة، وهي تقرير الاتصال بين الوجدان الإيماني في الإنسان وبين العقيدة، فلا سلطة لإنسان على آخر إلا أن تكون ملازمة لمقام الخلافة الإلهية الحقَّة، وهذا الاتصال لا يكون فاعلًا إن لم ينطَّلق من شعور حقيقي بالنقص الذي لا يُطلَبُ سَدُّه إلا من جهة الكمال المطلق، ولا يُقبل ممَّا هو دون ذلك.
 
• ملاحظة: موضوع الرؤية الإسلامية يحتاج إلى إشباع، وهذا ما أعِدُ به القارئ الكريم في المرحلة الثالثة من السلسلة إن شاء الله تعالى.
 
ويبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:
 
بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟
 
هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟
 
نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..
 
 
31 يناير 2015

1 comment:

  1. http://www.coder-best.com/2015/01/First-Lesson.html
    تعليم البرمجة المواقع html الدرس الاول

    ReplyDelete