Friday, January 2, 2015

متحف الكتب (جنينة) العقول // أم علي

 
 
حتى الإنسان قد يُحَنَّطُ بعد موته لينقل بعد حين إلى المتحف، كما هو الحال مع الفراعنة قبل آلاف السنين، والزعيم الشيوعي لينين قبل قرن من الزمان..
 
كُلُّ شيء يبلى ثم يُتلف أو يُخَصُّ بِرَفٍّ في متحف أنيق، إلَّا شيء واحد فإنَّ في (تتحيفه) دلالة على جهالة المجتمع وتخلفه..
 
إنَّه العقل.. الفكر..
إنَّها سيول الحِكمة والتجارب التي تزين صفحات الكتب، وقبل الكتب كانت الجلود وقبلها الأحجار..
 
الثقافات متناقلة بين البشر، فيكتسب اللاحق من السابق، و الماضي عُمدة الحاضر، كما أن الحاضر ركيزة المستقبل، وكل زمن وكل ثقافة لها خصوصياتها التي لا تشاركها فيها غيرها.
 
الكتب خزائن الثقافات، ورواحل التجارب، فهي ذات ثروة ضخمة كبيرة لا يُقدرها إلا من أدرك سِرَّ أسرارها، و كلما وقف القارئ على سِر الكتاب في أعماق معانيه أدرك ما لم يُدركه غيره.
 
إن الإيمان بقيمة الكتاب وما حواه وحمله من ثروة معلوماتية يُعطينا سلوكًا في التعامل الأجمل معه، فليست كل الكتب تتشابه، حتى وإن كررت المضمون، وأعادت الجوهر، ففي الأشكال ما ليس في الحقائق، وما من شيءٍ إلا وله قيمة.
 
كما هو الإيمان ذلك بالكتب، فإن الإيمان بالثقافات أجدرُ وأهم، حيثُ هي الأصلُ، فلا قيمة لمفكر ولا لمصلحٍ ولا لناهضٍ يرمي الثقافات التي لم يُدركها على قارعة الطريق
ويصد بوجهه عنها مصعّرًا خده، وهناك الكثيرون ممن أتقنوا فنَّ رمي الثقافات
وراء ظهورهم، بحجة عدم منفعتها. وما من ثقافة لا تنفع، ولكن أين من يُدرك ما في الثقافات ومناسباتها؟!
 
لا يعني بتاتًا أنني إذا كنت في زمن أنني أعرضُ عن أشياء كانت في زمن سابقٍ، فإن هذا نسفٌ لكل قيمة زمنية، بل هدمٌ لكل أثرٍ إلهيّ في الزمن الماضي. نعم، قد لا يتناسبُ ما في الماضي مع ما في الحاضر، ولكن هذا أيضًا لا يعني عدم الاستفادة مطلقًا. لذا فالسبيل الأجمل بمن أدرك زمنًا أن يقتبس من نور السابقِ ما يُضيء به حاضره، لا أن يرتكز عليه تمامًا، ولا أن يصطحبه في كل حال، إلى درجة أن يطمس حقيقة الزمن الحاضر.

حين تكون حاملًا هدف الفكر وغاية الإصلاح والنهضة فعليك أن تكون في حالك وفكرك وعقلك في كل أزمنة الدنيا، و تتنقل بين الثقافات كلها مقتبسًا من علوم الله المنثورة بين العباد. عندها تكون واسع الرؤية، بعيد النظرة، شموليًا في أُفقِ الفكر، فتدرك الأمور كما هي، بل أبعد و أعمق مما هي عليه. لكن حين لا تكون كذلك، فلن تتجاوز ظل عقلك، ولن تأمن حَور فكرك، و تكون الزلة أقرب من وريد الصواب، والظلم أسرع من بريق العدل.
 
وليس من هو هكذا إلا هامش في الزمان، وإذا كان الماءُ بطل التيمم، والثقافات لا تُغلب.
 
لذلك فليست الموروثات المعرفية زينة يُتجمل بها، وحتى وإن كانت كذلك، بل هي قوانين تُنمي العقل، وتصنع حضارة، فإذا كانت كذلك فالاهتمام بها عنصرًا مؤثرًا كبيرًا في البناء المعرفي ومن أهم المقومات لصناعة  جوهر الحاضر.
 
ليس شأنًا سليمًا أن أعمد إلى الحكم على الماضي من خلال رأي أحدٍ قرأه، فكلُّ إنسان له قراءةٌ تختلف عن الآخر، والتبعية في القراءةِ لمكتوب الماضي لا تليق بمفكر ولا بمثقف. فلتكن قراءته مبنية على الاستقلال الذاتي المبني على المعرفة و الرؤية الخاصة.
 
الاستئناس بالرأي من محامد العاقل، فلا يُهمله.
 
عندما نسبر الحاضر نجد أن أهله ليسوا سواء، فهم على درجاتٍ متفاوتة، وعلى طبقاتٍ متباينة، وكل أحدٍ منهم يسلُك مسلكًا ارتضاه، وقد يُفضي المسلك إلى المهلَك، إلا أن يتدارك الإنسان مسلكه ببصيرة و عقل، و يسير على موازين ومعالم، فربما حمته تلك من مهالك الطريق.
 
التعلق بالماضي واستصحابه في كل أحوال الحاضر ونقله للمستقبل قلة في الإدارك، وتعطيل لحكمة الخالق في خلق الأزمنة.. كذلك الاستقلال بالحاضر وفصله عن سياق السير الزمني غرور بعقل لم يستوعب ولم يُدرك.. والأشد خطرًا النظر لمستقبل مجهول مهول لا يدري ما يحمله، ولا يعرف ما يبذله، فكانت الحكمةُ العاقلة أن يكون الإنسان منطلقًا من حاضره إلى ماضيه مقتبسًا نور الفكر والرأي ليضعه في حاضره بنيانًا منيرًا يضئ له طريقه إلى المستقبل القادم، وفق سنن الحياة وقوانين الكون.
 
إن كان للكتاب متحفًا، فمتحفه العقول، وهي به (جنينة) تفوح منها الزواكي من من ورود لا تبلى..
 
تذكر.. إنَّه الكتاب..
 
 
3 يناير 2015

No comments:

Post a Comment