Friday, January 23, 2015

على ضفاف الذكريات (8) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

تجربة تعلّم اللغة الإنجليزية كانت تجربة صعبة ومريرة لا لصعوبة دراستها، ولكن لكونها مقدمة للدراسة الجامعية الأكاديمية مع عدم اعتبارها جزءًا من الدراسة الأكاديمية، وبحسب مستوى الطلبة العرب فإن معدل الفترة الزمنية لتعلّم اللغة الإنجليزية هو تقريبًا سنة كاملة. كما أن هناك بُعبُعًا نخشاه كما قَرُبْنا منه، وهو اختبار التوفل ويُعتبر من متطلبات القبول في الدراسة الجامعية الأكاديمية. وكذلك، نظرًا لصرف مبالغ من الأموال حول دراسة كان من المُفترض أن نقوم بها في بلداننا عوضًا عن صرفها أضعافًا مضاعفة من رسوم باهظة الثمن، ومصاريف معيشية مُكلِفة. كنتُ أعاتب نفسي في تلك الفترة على تفويت الفرصة في تعلّم اللغة الإنجليزية واجتياز اختبار التوفل قبل مجيئي إلى أمريكا. لكن الفرصة فاتت وعليّ أن أتجاوز تلك العقبة.

حتى في الغرب، هناك حالة سلبية وسيئة جدًا نمارسها مع بعضنا البعض نحن الشعوب العربية، وهي التخويف والتهويل، ونُعزي ذلك إلى الخوف على مصلحة الآخر. لعل نسبة كبيرة من خشيتنا لتجاوز اختبار التوفل كان سببها تلك الحالة السلبية. كما أننا في المعهد الذي تعلمّتُ فيه اللغة الإنجليزية، لم يكن التركيز على اجتياز هذا الاختبار، بل كان التركيز على تعلّم قواعد اللغة من قراءة وكتابة وتحدث وسماع وغيرها.
 

 
كان المعهد كما ذكرتُ سابقًا يحوي الكثير من العرب واليابانيين، وقد قضيتُ فيه تقريبًا سنة كاملةً. إن الاختلاط بالأمريكان المرجو من وجودي في بلاد الغرب لتعلّم اللغة الإنجليزية كان محدودًا في البداية.. كذلك فإن الطالب العربي في الغرب وبعد مضي عدة أشهر يتوق إلى مجتمعه أو مَن يتكلم لغته ويحمل ثقافته، لذا ترى الطالب يجتمع مع بني قومه ليتغلب على ألم الغربة والفراق. ومع إيجابيات هذه الحالة إذ تُريح الطالب المغترب نفسيًا، إلا أنها تلعب دورًا في تطويل فترة تعلمّه اللغة الإنجليزية.
 
 
المركز الإسلامي:
 
تطوّرت العلاقة بيني وبين فيصل فأصبحنا نقضي معظم الأوقات مع بعضنا البعض، وفي ليالي الجمعة واضبنا على حضور دعاء كميل، والتزمنا أيضًا بحضور الجلسة الأسبوعية في المركز الإسلامي ليالي السبت. كان هذان البرنامجان بمثابة نبعٌ روحي وفكري واجتماعي أصبح جزءًا لا يتجزأ من وجودنا في بلاد الغرب. كنّا ننتظر دعاء كميل بفارغ الصبر، حين تنساب تلك الكلمات على الروح فتُنعشها وتُحييها.. تُطفَأُ الأنوار فيتملّك النفوس هدوءًا وطمأنينة، ويعلو صوتٌ شجيٌ لأحد الإخوة فتتحرك الذبذبات الصوتية لتصل إلى مسامعنا وتُحرّك قلوبنا لتنتفض من غفوتها وتنهال الدموع من أماقي العيون، وتلهج الألسن مع القارئ بيا غياث المستغيثين.. ويا رب يا رب يا رب.. ويا سريع الرضا..
 

 
أما الجلسة الأسبوعية فكانت ليلة السبت، وهي عبارة عن برنامج يتكون من قراءة القرآن، ومحاضرة يقوم بتحضيرها المتمكنين من الإلقاء، كالحاج أبو حيدر وهو عراقي نجفي مهجر من السبعينات ويُعتبر الأب الروحي للمركز، أو الحاج أبا محمد من القطيف وهو مطلّع سياسي قدير، أو السيد علي من الإحساء، أو السيد علي من لبنان.. وبعد الانتهاء من المحاضرة يُفتح المجال للنقاش والحوار حول ما تم طرحه، وفي بعض الأحيان تُختم الجلسة بوجبة العشاء. غالبية المحاضرات كانت تُطرح باللغة العربية، مع بعض الاستثناءات.

أما في المناسبات الدينية من احتفال أو وفاة، فيتم تأجير صالة أكبر حجمًا في نفس مكان الشقة (المركز)، ويحوي البرنامج إضافة للمحاضرات فقرات شعر للشاعر (أبي علي) وبعد رحيله جاسم الصحيح من الإحساء، وابتهالات أو نعي لصاحب الصوت الشجي الملا سعيد المعاتيق.. أما الشاعر جاسم الصحيح، فالمُلفت أنه لم يلقِ شعرًا في حضور الشاعر أبي علي قط، وذلك بحسب ظني احترامًا لمكانته كشاعر إذ كان قبله وجودًا في المركز، مع أنه عندما تسأله عن عدم إلقائه الشعر في تلك الفترة، كان يُعزي ذلك إلى أنه لم يكن شاعرًا حينها.. لكن بعد رحيل الشاعر أبي علي تفجرّت طاقاته الشعرية بشكل ملفت جدًا. وكان جاسم من ضمن الطلبة الذين يمتلكون ذاكرة مذهلة حقًا، إذ كان شديد الحفظ، يكفي أنه تعلّم اللغة الفارسية في غضون ستة أشهر. كنتُ أسأل الإخوة الإيرانيين عن مدى قدرته على التحدث باللغة الفارسية فكانوا يقولون أنه يتحدث أفضل منهم معتمدًا على قواعد اللغة الفارسية. بل معروف عن الصحيح أنه يحفظ علامات الطلبة العرب منذ دخولهم الجامعة. كان هذا التنوّع في القدرات والملكات من صوت جميل، ومَلكةٍ خطابية، وقريحة شعرية من مميزات هذا المركز الإسلامي.
 
كما يرعى المركز برامجًا موسمية كبرنامج محرم الحرام، وشهر رمضان، ويقوم بعدة أنشطة من قبيل رحلات في أيام عطلة الربيع والصيف.. أمّا في شهر محرم، فتكون القراءة الحسينية في كل ليلة من لياليه من حادي إلى ليلة الثالث عشر، يتخلل البرنامج محاضرات وزيارة ولطميات، أما في شهر رمضان فكان البرنامج في كل ليلة منه - وهو في غالبه موجه للعزاب - يبدأ بقراءة القرآن ثم صلاة الجماعة ووجبة الإفطار مع دعاء الافتتاح. كما يحوي المركز على مكتبة للقراءة تحوي الكثير من الكتب باللغة العربية وقليل من الكتب الإنجليزية والفارسية. وأيضًا يوفر المركز اللحوم الإسلامية الحلال وذلك عن طريق أحد الإخوة الإيرانيين (أكبري)، إذ قام بشراء ثلاجات وتم وضعها في المركز لتخزين اللحوم وبيعها على مرتادي المركز. وأكبري أيضًا يمتلك صوتًا جميلًا في قراءة الأدعية وله عدة مواقف أتطرق إليها لاحقًا.


مرّ على هذا المركز الكثير من الأحداث والمواقف والأشخاص، سأتطرق لها لاحقًا بحسب التسلسل الزمني..
 

الأب أبو خليل:
 
كان أغلب حضور المركز طلبة من المنطقة الشرقية (الإحساء والقطيف) وأكثرهم مبتعثون من شركة أرامكو، مع بعض الإيرانيين والعراقيين واللبنانيين. بعد فترة وجيزة تعرّفت عليهم جميعًا، وكان من ضمن هذه المجموعة أبو خليل (من القطيف). قام الأخ أبو خليل بالاهتمام بنا أنا وفيصل، ففي المجموعة تلك كنّا الوحيدين تقريبًا صغيري السن - لم نبلغ العشرين عمرًا - وغير متزوجين. كان أبو خليل دائم الرعاية لنا، يعزمنا في بيته، يخرج معنا ليعرفنا بالمناطق والأماكن، ويقضي وقتًا كثيرًا معنا ننهل من خبرته وعلمه. بعد فترة قصيرة جدًا كانت الجالية تُسمينا أبناء أبي خليل نظرًا لاهتمامه البالغ بنا. كان أبو خليل يتميز بحسن الخلق وطيب النفس وحلاوة اللسان، لكن أكثر صفة تميّزه هي حب الاستطلاع والاستكشاف. ذات مرة كنا معه في سيارته نتجوّل فرأى مبنىً على هيئة مسجد، فأوقف سيارته في الحال وخرج لاستطلاع المكان. كان من الغريب جدًا في تلك الفترة أن ترى هيئةَ مسجدٍ بقبةٍ زاهية ومنارة تشق عنان السماء. ذهب أبو خليل - ونحن معه - إلى باب المسجد وكان مغلقًا إذ كان الوقت عصرًا.. لم يرجع، وإنما ظل يستكشف المكان حتى جاء أحد الباكستانيين وكان قيّمًا للمسجد ويسكن في بيت بجانبه، فعندما رآنا نحوم خارج المسجد جاء إلينا سريعًا. نظر إليه أبو خليل فعرفه مباشرة إذ كان بروفيسورًا في الجامعة. سلّم علينا وطلب منه أبو خليل أن يسمح لنا بدخول المسجد لرؤيته من الداخل فقام البروفيسور بذلك.. كان المسجد للطائفة القاديانية (أو الأحمدية كما يُطلق عنهم). 
 
 
مع قصر المدة - تقريبًا في حدود السنة الواحدة - التي قضيناها مع أبي خليل، إلا أن الذكرى ظلت حافظة رعايته الأبوية لنا في تلك الفترة، ولا يزال يتواصل معنا بين فترة وأخرى، كان آخرها قبل عدة أسابيع إذ كان في زيارة لابنه الذي يدرس الآن في أحد الجامعات الأمريكية.

أبو خليل أول تلك الشخصيات التي تركت أطيب الأثر في نفسي، وهكذا تميّزت حياة الغربة بشخوصٍ لم يتركوا فقط أثرًا إيجابيًا في نفسي، وإنما صاغوا وشكّلوا شخصيتي الحالية..
 
 
توقف الحرب
 
مرت السنة الأولى من وجودي في أمريكا بحدث توقف الحرب العراقية الإيرانية في أغسطس 1988.. حرب شنّها صدام العراق برعاية الدول الكبرى وعلى رأسها أمريكا على الجمهورية الإسلامية الفتية واستمرت لثمانية أعوام كان حصيلتها الكثير من الخسائر البشرية والمادية.. 
Iran-Iraq War Montage.png
 
أتذكر جيدًا تلك الكلمات التي أطلقها السيد الإمام روح الله الخميني (قدس سره) على أثر توقيف الحرب: "إنني أتجرع السم".. كان القرار صعبًا ليس فقط على إيران، بل حتى علينا نحن جيل الثورة الذين نشأنا على أحداثها منذ البداية.. ثورة الشعوب المستضعفة..  من المواقف التي أتذكرها حين توقيف الحرب حادثة لصديق إيراني مؤمن، كان ينقل أثر كلمات السيد (يرحمه الله) على أخته التي كانت تكرهه، إلا إن كلماته جعلتها تبكي وبحرقة. سألها أخوها مستغربًا عن هذا البكاء، فقالت: "مع أنني لا أحب هذا الرجل ولا أحب ثورته، إلا أنه يعزّ علي أن أسمعه يقول تلك الكلمات.. شعرتُ حينها بالانكسار في كلماته..". 
  
كان الحالة الإيمانية في أمريكا في نهاية عقد السبعينات وبداية الثمانيات نشطة جدًا وذلك بسبب الثورة الإسلامية في إيران، إلا أنه بعد توقف الحرب ضعفت وأخذت بالتضعضع..
 
يتبع في الحلقة القادمة..


25 يناير 2015

No comments:

Post a Comment