بسم الله الرحمن الرحيم
لا أستطيع أن أصوّر الحالة التي كنتُ فيها، ركبتُ بسرعة.. شكرتُ الله وحمدته على انقاذي من هذا المأزق.. انشرح خاطري، وازدان اليوم ضياءً.. ولكن بعد دقائق تسارعت دقات قلبي وأصبح مقبوضًا:
ماذا لو لم يتم تحويل العملة في المطار!!!
نظرتُ إلى اسم سائق التاكسي فإذا به اسم مسلم، فسألته من أين أنت، فقال لي أنه من باكستان.. بين محادثتي للسائق أخاطب نفسي وأفكر بكيفية التعامل معه إن لم يقم محل الصرافة بتحويل النقود؟! فكرتُ في عدة حلول، أولها أن أعرض عليه الكاميرا التي عندي وقيمتها ستغطي تكاليف الأجرة وأكثر.. قلت في نفسي إن أسوء الاحتمالات أنني سأعطيه الكاميرا وسأهرب منه إذا لم يوافق..
أوصلني السائق المطار وذهب معي إلى محل الصرافة.. أعطيت المبلغ - نيف وأربعين دينارًا تقريبًا - إلى صاحب الصرافة فنظر إليه بنظرة استغراب وقال: من أين هذه العملة الغريبة؟! أجبته. فقام بتقليب المبلغ ثم رماه على الطاولة وخلال هذه الثواني - وكأنها ساعات- قام عقلي بطرح سيناريوهات مختلفة من التعامل مع سائق التاكسي.. وإذا بصاحب الصرافة يُخرج ورقة ويقوم بكتابة التحويل فيها، ويُخرج دولارات لتصريف العملة.. كانت التصريف تقريبًا مئة وثمانية دولارات.. أحسست حينها بأن روحي ردت إلى جسدي.. شعرتُ بأني أملك الدنيا بهذا المبلغ، فمِن دولارين لا أستطيع أن أفعل بهما شيئًا إلى مئة وبضعة دولارات!
دفعتُ مبلغ الأجرة لسائق التاكسي وشكرته كثيرًا وأعطيته إكرامية أيضًا على خدمته وثقته.. ثم توجهت مسرعًا إلى قاعة الانتظار عند بوابة الطائرة.. كانت الساعة تشير إلى الساعة الحادية عشر إلا عشر دقائق صباحًا، وقد كانت رحلة سفري في الساعة العاشرة مساءً، لكن بعد الموقف الذي حدث لي لم أكن لأفارق البوابة.
كانت قاعة الانتظار مكتظة بالمسافرين.. وأنا أنظر إلى ساعة الحائط وهي تشير إلى الساعة العاشرة وخمسين دقيقة، وإذا بي أخلد للنوم على أصوات الناس وضجيجهم. استيقظت وكأني نمتُ الدهر كله ونظرت عيناي إلى ساعة الحائط وإذا بالساعة تشير إلى الحادية عشر! معقول، كل هذه الفترة التي نمتها هي فقط عشر دقائق! غير معقول.. نظرت حواليّ وإذا بالقاعة فاضية ولا يوجد فيها أحد.. ماذا حدث؟ هل نمتُ 24 ساعة وعشر دقائق!! هرولت لأسأل عن تاريخ اليوم وإذا به نفس يوم سفري..
بعد ساعة أو ساعتين قمتُ بالتحرك من قاعة البوابة وتجرأتُ في الخروج والدخول من المطار، إذ لا يزال هناك متسعًا من الوقت، وفي جيبي مبلغ من المال يكفي لأن يخرجني من أي ورطة.. في تلك الفترة كانت المطارات في أمريكا بصورة عامة سهلة الدخول والخروج، فلا يوجد تفتيش للأمتعة ولا للمسافرين ومرافقيهم، بل أن المرافقين يستطيعون أن يصلوا لحد باب الطائرة..
كان معي دفتر رسم وبين فترة وأخرى أخرجه لأرسم فيه.. وظللت على هذه الحالة حتى المساء، إذ قضيتُ طوال اليوم في المطار.. لم أكن لأجرؤ على تركه إذ كان كل همي أن أسافر في الوقت المحدد.. تجمع المسافرون حول بوابة الطائرة وأغلبهم كانوا عربًا مع بعض الأجانب.. كنتُ حينها جالسًا على الأرض وحقيبتي اليدوية بجانبي وأنا أرسم في دفتري.. جاء وقتُ المغادرة ومضى ولم يتم فتح البوابة.. بعد ساعة ضج الناس من كثرة الانتظار، فكان سبب التأخير عطلًا في الطائرة.. مع أن الموقف كان مزعجًا للكثير من المسافرين إلا أنني كنتُ مرتاحًا مطمئنًا ولم أهتم كثيرًا لتأخر الرحلة.. مرّت ثلاث ساعات ونحنُ على هذه الحالة.. ضج المسافرون حينما قام طاقم الرحلة بتحويل رحلة بعض المسافرين الأجانب على طائرة أخرى، بينما ظل المسافرون العرب محلهم لا يسمعون إلا كلمات من قبيل: كلها نصف ساعة وتتحرك الطائرة..
مما زاد الطين بلة أن العطل كان في أحد محركات الطائرة، وسوف يتم إرسال محرك جديد من الأردن إلى نيويورك لإصلاح الطائرة، والمطلوب منا أن ننتظر كل ذلك الوقت في المطار حتى يتم تغيير المحرك.. لم أكن منزعجًا من ذلك، فحينها كان يمكنني أن أتوسد حقيبتي وأنام عليها في أي زاوية من زوايا المطار، لكن بقية المسافرين لم يكونوا ليقبلوا بذلك، خصوًصًا أن الكثير منهم عوائل لديهم أطفالًا صغارًا.. كان من بين المسافرين امرأة متحجبة يبدو أن لها مركزًا اجتماعيًا مرموقًا في الأردن خاطبت طاقم الرحلة بكل قوة وصلابة وكانت متحدثة لبقة فألقت على أسماع طاقم الخطوط محاضرة في التمييز والاستهتار بالمسافرين العرب والاهتمام بالمسافرين الأجانب، اذ يبدو أن الأجانب الذين تم تحويل رحلتهم في خلال ساعة كانوا يهودًا متجهين إلى إسرائيل، بينما المطلوب من العرب أن ينتظروا في المطار بأطفالهم ورضّعهم بدون توفير احتياجاتهم أو حتى وجبات أكل إلى حين يتم إصلاح العطل في الطائرة.. بعد أن أثارت المرأة ضجة كبيرة قام طاقم الخطوط بحجز فندق للمسافرين على حساب الخطوط الأردنية..
بتُّ تلك الليلة في الفندق، وفي اليوم التالي ذهبتُ إلى المطار صباحًا وقمتُ بعملية تمشيط للمطار من أوله إلى نهايته حتى يتسنى لي أن أعرف المطار جيدًا ولا أقع فيما وقعتُ فيه في اليوم السابق.. لم يتم سفرنا إلا في الساعة الحادية عشر مساءً أي بعد 25 ساعة من موعد الرحلة..
وصلتُ إلى موطني في رحلتي هذه بعد حوالي خمسة أيام من العناء والسفر..
لم أمكث وقتًا طويلًا في البحرين، إذ قمتُ بالعمل على تحصيل الفيزا سريعًا.. الشيء الملفت أنه قبل رحيلي من البحرين قبل عدة أشهر كان الحراك السياسي في غيبوبة، ولكن حين رجوعي كان على العكس ملتهبًا متوترًا إذ صادف تعزيز الوجود الأمريكي العسكري في الخليج بإضافة ست سفن حربية تقودها بارجة ضخمة.. ولازلتُ أتذكر كلمة الشيخ عيسى قاسم حفظه الله في احتفال بمولد الإمام الحسين عليه السلام في مسجد مؤمن في المنامة عندما انتقد رافضًا هذا التواجد.. كان ذلك في شهر ابريل عام 1988 في آخر سنة من الحرب العراقية الإيرانية.
يتبع في الحلقة القادمة..
10 يناير 2015
No comments:
Post a Comment