Friday, January 2, 2015

على ضفاف الذكريات (5) // ز.كاظم

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم

بينما نحن راجعون في سيارة فيصل قلتُ له: لن أتمكن من حضور هذا المكان مرة ثانية..

تسيطر العقلية الأمنية على كيان الفرد في بلداننا العربية المحكومة بالقمع والخوف، وتظل هذه العقلية عالقة فيه حتى وهو خارج بلده.. فالتحذيرات التي يسوقها الأهل على ولدهم - الطالب - من عدم المشاركة في أي مجال أو نشاط - سواء كان ديني أو سياسي - قد يعود بالضرر عليه حين عودته لبلاده.. فالهدف هو الدراسة، والدراسة فقط.. هكذا كانت العقلية الأمنية مسيطرة عليّ حينما خرجت من ذلك المكان المكتظ بالجنسيات المختلفة.. مكان ديني يجمع بين أرجاءه عددًا كبيرًا من الأفراد، وفي وطني التجمع ممنوع لأكثر من شخص واحد! هل أثق فيهم! ألا يمكن أن يكون أحدهم مخابرات يعمل في الأجهزة الأمنية لوطني الحر! ماذا لو كان المكان مراقبًا! الكثير من المخاوف والهواجس كانت كفيلة بأن تجعلني أعيش صراعًا بين أن أخوض هذه التجربة أو أن أبتعد عنها اتقاءً للضرر والخطر.



الفيزا

بعد قضاء شهرين في الدراسة في معهد اللغة جاءني خبر كدّر صفو وجودي في تلك البلاد، إذ لم توافق إدارة الهجرة على تغيير فيزتي من فيزا "زائر" إلى "طالب"، وكان لا بد من خروجي في فترة زمنية محددة. كان الخبر صاعقًا بالنسبة لي، ذلك يعني أنني لن أتمكن من إنهاء الفصل الدراسي. قمت بمراجعة إدارة المعهد فأخبروني أنه لن يؤثر على دراستي إذ أن مستوى معدلي سيسمح لي بأن أنتقل للمستوى التالي. حين قدومي لأمريكا أخبرني صاحبي الذي جئت معه لأمريكا أن تحويل الفيزا أمر سهل يسير، بل إنه هو قام بذلك قبل سنة واحدة فقط، لكن يبدو أن حظي أبى إلا أن يكون تعيسًا.. 

كان عليّ أن أغادر الولايات الأمريكية المتحدة ومن ثم أقدّم طلب فيزا "طالب" من السفارة الأمريكية خارج أراضيها.. يحتاج الطالب للحصول على فيزا "طالب" للدراسة في الولايات الأمريكية المتحدة أن يحوز على قبول من كلية أو جامعة يُسمى I-20، مع عدة متطلبات أخرى من ضمنها الضمان المالي والملف الصحي. أشار عليّ صاحبي أن أذهب إلى كندا خصوصًا أنها تبعد عن منطقتنا حوالي 6 ساعات، ومن هناك أقوم بطلب فيزا من كندا. ولكي أدخل الأراضي الكندية فكان عليّ أن أقدم على فيزا لدخول أراضيها في السفارة الكندية وكانت تقع في مدينة في منتصف الطريق إلى كندا، تبعد عن منطقتي حوالي 3 ساعات.

راقت لي الفكرة، ولكن كيف لي أن أقوم بذلك؟ أشار علي صاحبي أنه سيقوم بتوصيلي إلى تلك المنطقة. استغربت من كرمه الغير متوقع، ووافقت على الرحلة. عندما جاء وقت الرحيل وإذا بصاحبي قد أتى بصاحبته - الجيرلفرند - وأخبرني أنها سترافقنا، وهي يابانية ذات أخلاق طيبة. المشكلة أن سيارة صاحبي سبورت ولا تتسع إلا لشخصين، فكان لزامًا علي أن أجلس في مؤخرة السيارة في مكان ضيق جدًا لا تسعني فيه الحركة. وصلنا بعد ثلاث ساعات طوال إلى المدينة ليلًا.. بتنا تلك الليلة وفي اليوم الثاني ذهبنا إلى السفارة الكندية وفي دقائق تم رفض إعطائي فيزا. لم يعد لي من خيار إلا الرجوع إلى البحرين وتقديم فيزا طالب من السفارة الأمريكية فيها.

حجزتُ مباشرة للرجوع في نفس ذلك اليوم عصرًا، ودبّ خلاف بيني وبين صاحبي على أمر كان يتوقعه من جراء قيامه بتوصيلي.. كانت فكرته أنه يوصلني إلى هناك ويتقاضى مبلغًا من المال على حسن صنيعه.. أراد أن تكون كل مصاريف الرحلة عليّ، بينما لم أقبل بذلك مما أغضبه ودفعه لأن يتركني على أحد شوارع تلك المدينة وولى راحلًا غاضبًا.. وقفتُ على ناصية الطريق لا أدري إلى أن أمضي.. بعد دقائق جاءت اليابانية - صاحبة صاحبي - التي لم يرقّ قلبها أن أُترك وحيدًا ودلتني على محطة باص ليقلّني أحد باصاتها إلى المطار.. شكرتها على معروفها، وأخذتُ الباص إلى المطار.. لم يكن في جيبي إلا بضع دولارات استنفذت بعضها في تذكرة الباص وبقيتْ معي حوالي عشرة دولارات أخيرة.


رحلة العودة والضياع..

كانت رحلتي تمر على نيويورك - ترانزيت - ثم الأردن وإلى البحرين.. وصلتُ مطار جي إف كينيدي فجرًا في أيام الشتاء البارد.. هذا المطار يحوي على رحلات داخلية - داخل أمريكا - ورحلات خارجية - إنترناشيونال - ويحوي المطار أيضًا الكثير من المباني المختلفة البعيدة عن بعضها البعض نسبيًا.. إذ لا بدّ لك أن تستقل باصًا ليأخذك من مبنىً لآخر. خرجتُ من مبنى الرحلات الداخلية ووقفتُ أنتظر الباص ليقلّني إلى مبنى الرحلات الخارجية. في هذه الأثناء جاءني صاحب تاكسي وعرض عليّ أن يوصلني بنفس مبلغ الباص. لم أكن أعلم حينها أن الباص بالمجان، فسألته عن قيمة التذكرة، فقال: 8 دولارات. حاولتُ أن أتخلص منه، لكنه كان لحوحًا. وافقتُ بعد فترة من الترغيب وخصوصًا أن الجو باردٌ وكانت حبات الثلج تتساقط قليلًا..




ركبتُ التاكسي، ودفعتُ الأجرة.. وإذا به يأخذني إلى مدينة منهاتن وهي مدينة تبعد عن المطار حوالي 15 ميلًا. التفتُ إليه منذ خروجه من المطار وقلتُ له: إلى أين؟ إنني أريد مبنى الرحلات الخارجية! فقال لي أنه سيذهب بي إلى مدينة منهاتن! حاولتُ أن أفهمه أنني لا أريد المدينة بل أريد المطار، فلم ينفع. يبدو أنني كنتُ واقف خطئًا في محطة الباص التي تقلّ القادمين سفرًا إلى مدينة منهاتن. أردتُ منه أن يرجعني إلى المطار، فقال أنها 8 دولارات أخرى، ولم يكن معي سوى دولارين!!

أوصلني إلى مدينة منهاتن والصبح لمّا ينفلج، وحبيبات الثلج لا زالت تتساقط، وأنا أجر حقيبة سفري وأرتجف بردًا.. كيف سأرجع! لا يوجد لدي من النقود ما يكفي لتذكرة الرجوع للمطار! ظللت أمشي في شوارع المدينة الكبيرة وأنا لا أعرف ماذا أفعل! وكان ذلك اليوم يوم السبت، وأغلب البنوك والمصارف مغلقة في هذا اليوم. كانت لدي كاميرا تصوير ففكرتُ ببيعها، ولكن كيف؟! حاولتُ وأنا أمشي في شوارع منهاتن - وقد كانت الشوارع مكتظة بحركة المشي - أن أدير حديثًا مع أحد الماشين وكان آسيويًا.. بعد دردشة خفيفة عرضتُ عليه بيع كاميرتي، فنظر للأمام ومشى ولا كأنه يراني.. لم تنفع خطة بيع الكاميرا. كانت لدي عملة بحرينية وقد حاولتُ أن أحوّلها في أحد بنوك مدينة دراستي ولكن لم يقبلوا أن يحوّلوها إلى دولارات أمريكية ولم أدري ما السبب! ظلت هذه العملة معي في جيبي طوال هذه المدة. 

ذهبتُ إلى محطة الباص أملًا في أن أجد حلًا للرجوع للمطار.. خاطبتُ بائع التذاكر، فأشار عليّ أن أتحدث إلى السائق.. ذهبت إلى سائق الباص وقد كان رجلًا أسودًا في الخمسين من عمره، وشرحتُ له موقفي. فقال إنه لا يستطيع أن يقلّني بدون تذكرة. فعرضتُ عليه العملة البحرينية فقال: أنه لا يأخذ أموالًا، فقط تذاكر، ولكن، هناك بنكًا يفتح في يوم السبت في الساعة التاسعة صباحًا، اركب وسأوصلك إليه فهو ليس ببعيد. شكرته كثيرًا وركبت الباص إلى مكان البنك. كان الوقت حوالي الساعة الثامنة والنصف صباحًا. وقفتُ أمام البنك أنتظر، ولم يفتح. 


حينها آيست.. وظللت أمشي في شوراعها.. نظرتُ إلى شرطيين، فذهبتُ لكي أخبرهما عن حالي. فسلمتُ عليهما وقلت لهما: أن لدي مشكلة.. فرد أحدهما بعنجهية: أننا نواجه في كل دقيقة مشكلة. فغضبتُ حينها وقلتُ له: إنها مشكلة حقيقية. قال: ما عندك! فشرحتُ له موقفي. فقال: اذهب إلى شركة تسمى تربل أي AAA، وهناك سيساعدونك، وهم يفتحون يوم السبت، وأعطاني العنوان. فمضيت أمشي وفي الأثناء حاولتُ أن أجد أحد الشوارع التي ستوصلني لمحل AAA وأردتُ أن أسأل بعض المارة عن الشارع، وكانا رجلًا وامرأة، فخاطبتُ الرجل بأدب، فلم يعرني وجهًا، فقلتُ له: يا سيدي إنني لا أريد منك شيئًا، بل مجرد سؤال عن شارع. التفتتْ من كانت معه وجاءتني بينما هو مضى ولم ينتظرها. سألتها عن الشارع الفلاني، فدلتني عليه. وصلتُ إلى المكان فكان مغلقًا وبعدها علمتُ أن هذا المحل لا علاقة له بتوصيل ولا هم يحزنون وإنما كان الشرطي كما يبدو يريد التخلص مني.

اظلمّت الدنيا في عيني، وبدأت أنسج من خيالي مستقبلي المعنوّن بالضياع.. كيف سأقضي بقية حياتي في شوارع منهاتن مع المتسولين.. وبينما أنا كذلك، إذ مررت على سيارات الأجرة.
 

لا أدري لماذا ولكني قمتُ بالنظر مليًا في أحد سواق الأجرة وكأنني أعرفه.. وعندما اقتربت منه ووضحت صورته عاتبتُ نفسي بتخيلاتها، فمِن أين لي بمعرفة سائق أجرة وفي نيويورك! وإذا بسائق سيارة الأجرة يناديني لكي يوصلني لأي مكان أريد. أمسكت نفسي في محاولة لإخفاء حالة الخوف واليأس وسألته، بِكم الأجرة إلى المطار؟

فقال: على العدّاد.
فقلت: حوالي كم؟! 
فأجاب: تقريبًا عشرين إلى خمس وعشرين دولارًا.
فقلت: اسمع إن لدي عملة من بلدي، فإن أوصلتني للمطار، فسأقوم هناك بصرفها ودفع أجرتك.
فقال: أرني العملة.

فأريتها إياه وأنا ماسك بأحد أطرافها لكي لا يسرقها. نظر إليّ مليًّا أيقنتُ حينها أنه لن يوصلني. فسحبت أموالي، وأردت أن أمضي، فقال: اركب.

لا أستطيع أن أصوّر الحالة التي كنتُ فيها، ركبتُ بسرعة.. شكرتُ الله وحمدته على انقاذي من هذا المأزق.. انشرح خاطري، وازدان اليوم ضياءً.. ولكن بعد دقائق تسارعت دقات قلبي وأصبح مقبوضًا:

ماذا لو لم يتم تحويل العملة في المطار!!!


يتبع في الحلقة القادمة..


3 يناير 2015

No comments:

Post a Comment