Friday, January 23, 2015

الشُيُوعِيَّةُ، وإنْ غَابَ أو (غُيِّبَ) رَسْمُها (13) - "مناقشات وردود (4) / العقل والتطور والمادة" // محمد علي العلوي

 
 
على صعيد المادة، فإنَّ العالم البشري يشهد قفزات هائلة في مجال التصنيع بمختلف صنوفه وأشكاله، وقد بات من الصعب جدًّا، وربَّما من المستحيل السيطرة على الهيجان العلمي التقني الذي يحاول تجاوز كل شيء، حتى الزمن!

• الشيوعيَّةُ الماركسية والمثالية الهيغلية:
تُرجِعُ الشيوعِيَّةُ هذه النزعة العقلية الإبداعية إلى الجموح البشري البرجوازي، فكُلَّمَا أرادت البرجوازية إحكام سيطرتها، كُلَّمَا توسعت في مصانعها، ولازم ذلك التوفر على عقول إبداعية تفرض التوسع الذي يساوقه ضرورة اتساع سوق المال، وهكذا تدور المعادلة في المجتمع البشري.

من المهُمِّ هنا، ملاحظة الدورين المحوريين في هذه المعادلة، وأقصد بهما: العقول، ورؤوس الأموال، ومن الواضح أنَّ الضرورة التوسعية تربط بينهما ربطًا لا يُتصور انحلاله، فصاحب المال يحتاج لعقول مبدعة، وإذا ما وقعت العقول في هوى المال، فحينها قد قامت الأركان الرئيسية للمعادلة، وبقيت السواعد يشتريها المال، والمستهلك يرجعه لصاحبه.. صاحب رأس المال.

ثَمَّة نظرية أخرى سابقة، وهي خلاصة الفلسفة المثالية التي أبرزها الألماني هيغل تحت عنوان: الديالكتيك، غير إنَّ هيغل يُرجِع التطور في الفكرة البشرية إلى نزعة أصيلة نحو الحرية، ويرى إنَّ الفكرة تولد ويولد معها نقيضها الجزئي أو الكلي، وتلتقيان فتُنتجان فكرة أوسع منهما، فيولد مع هذه الأخيرة نقيضها الكلي أو الجزئي، وهكذا تبقى العملية في توالد حتى يصل المجتمع البشري إلى الحرية الشاملة، وهي مرحلة نهاية التاريخ، ولذلك يرى هيغل بأنَّ كل عهد لا بد أن يكون أفضل من سابقه، فالمجتمع البشري في تطور إيجابي مستمر وبدافع مباشر من نزعة الحرية الأصيلة في الإنسان.

يتعامل الفكر الشيوعي مع معادلة التطور من خلال استراتيجية واضحة قرَّرها في بيانه الرسمي، وهي:
"فقبلًا رأينا أنّ الخطوة الأولى في ثورة العمّال هي ترفيع البروليتاريا إلى طبقة سائدة والفوز بالديمقراطية.

فالبروليتاريا ستستخدم سلطتها السياسية لتَنتَزع من البرجوازية تدريجيًا، رأس المال كله، ولِـتُمركز أدوات الإنتاج كلّها في أيدي الدولة، أي في أيدي البروليتاريا المنظَّمة في طبقة سائدة، و لتزيد حجم القوى المنتجة بأقصى سرعة ممكنة.

وفي البداية، لا يمكن حدوث ذلك طبعًا، إلاّ بالانتهاك الاستبدادي لحقّ الملكية ولعلاقات الإنتاج البرجوازية، أي بتدابير تبدو، اقتصاديًا ناقصة وغير مأمونة البقاء، لكنّها تتجاوز نفسها في مجرى الحركة، وهي لا غنى عنها كوسيلة لقلب نمط الإنتاج بأسره."

وهذه الرؤية تُعَدُّ في نظر المُنَظِّر الشيوعي تعديلًا جوهريًا على الديالكتيك الهيغلي، وقد قال كارل ماركس بأنَّه هيغل قد أوقف الديالكتيك على رأسه، وقد قام بتعديله، فهو الآن يقف على رجليه!

* السياسة والرؤى الفلسفية:
تقوم أنظمة الحكم في العالم على عناوين فلسفية دقيقة، ولا أكثر صراحة من كتاب الأمير لمياكافيلي الذي لا يزال مادة أوليَّة رئيسية في البحوث والدراسات لاستراتيجيات الإدارة السياسية، ولا تنحصر الفائدة من هذه الدراسات في أنظمة الحكم الرسمية فحسب، فهي محل اهتمام الأحزاب والتنظيمات بمختلف مستوياتها، ولذلك فنحن نعيش على المستويين الرسمي والمجتمعي تطبيقات لتلك النظريات الفلسفة التي تمر عبر التيارات الفكرية المتمثلة في الأحزاب والتنظيمات بشكل عام، وهذه الأخيرة ليس من الضرورة أن تكون على دراية وإحاطة بالفلسفة التي تقوم عليها، ولكن يكفي أن تكون عليها من حيث لا تعلم.

النتيجة التي أراها، هي إنَّ المجتمعات لا تملك غير الاندماج مع كل ما هو قائم، ما لم تكن لها فلسفتها الخاصة، وما لم تتمكن من فرضها واقعًا وحقيقة، ونحن كمسلمين نعتقد بأنَّ للثقلين المقدسين (الكتاب والعترة) المحورية في كل نظرية سياسية أو اجتماعية أو تربوية أو غير ذلك، وعلى مستوى النظر نعي باستحالة التصادم بين الثقلين وبين الرؤية العلمية الصحيحة في أيِّ مجال من المجالات.

مثلًا:
عندما نأتي للتعاطي في الشأن السياسي، فنحن نرتكز على قول الله سبحانه وتعالى (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)، والروايات الواردة في خصوص الظهور المقدس للإمام المهدي المنتظر (أرواحنا فداه)، وبهذا الارتكاز نعلم إجمالًا بأنَّ مسؤولية الإصلاح والتغيير لا نتحملها بشكل كامل كما يذهب إليه الشيوعي أو الهيغلي، فهناك قوة أخرى نؤمن بها تمامًا سوف تقوم بمهمَّة الحسم في الوقت المناسب، ثُمَّ إنَّنا نرجع إلى الآيات والأحاديث لنرسم الاستراتيجيات التي ينبغي علينا تفعيلها على هذا الطريق.

وبالنسبة لما نحن فيه، فإذا كان الشيوعي يرى حتمية الصراع ويحمل نفسه الدفع في اتجاه تأجيجه كمقدمة وجودية لتلاشي الطبقات وبالتالي انتشار السلام، وإذا كان هيغل على طبيعية الحركة البشرية وإنَّ الحريَّة الكاملة قادمة لا محالة، فنحن في الإسلام ننطلق في إعمالنا الفكري من قوله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).

نعتقد بأنَّ هذه الدنيا دارُ عداوةٍ وشحناء، وهذه الحالة نتيجة لمعصية الإنسان التي أخرجته من جَنَّةِ أُبيحت له تفضلًا من الله سبحانه وتعالى، غير إنَّ مطبَّ الدنيا مخصوص لمن أراد الوقوع فيه، وأمَّا طريق النجاة فمتاح لمن يتَّبِعَ سبيل الصالحين، وهو (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، ومن يتَّخِذ هذا السبيل كان عليه التركيز على صيانة نفسه والمحافظة عليها من حبائل الشيطان الذي لا ينفك مجتهدًا لجر الناس نحو هاوية الدنيا، وتأتي هذه الصيانة على طريق انتظار الفرج المكتوب على يد الإمام المهدي المنتظر (عليه السلام)، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "المهدِيُّ من ولدي، اسمه اسمي، وكنيته كنيتي، أشبه الناس بي خَلْقًا وخُلُقًا. تكون له غيبة وحيرة حتى تضل الخلق عن أديانهم، فعند ذلك يُقبِلُ كالشهاب الثاقب، فيملأها قسطًا وعدلًا، كما مُلِئت ظلمًا وجورًا".

كما ونعتقد بأنَّ هذا الظلم والجور لا يكون بالقتل وسفك الدماء فقط، ولكنَّ الأصعب والأكثر خطورة، هو الظلم والجور بانقلاب الخير شرًّا والشرِّ خيرًا، وبأن ترى الناس المنكر معروفًا فتعمل به، والمعروف منكرًا فتنتهي وتنهى عنه، فقد قال (صلى الله عليه وآله): "يأْتي على النَّاسِ زَمَانٌ يَذُوبُ فيهِ قَلبُ الْمُؤمِنِ كما يَذوبُ المِلحُ فِي الماءِ. قِيلَ: مِمَّ ذَاكَ؟، قَالَ: مِمَّا يَرَى مِنَ المُنكَرِ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ".

ولذلك، فإنَّ الصراعات والنزاعات ليست من الأمور التي يُفرضُ على الإنسان خوضها والتفاعل معها بما يُحَقِّقُ تلاشي الطبقات فالحرية والسلام كما تذهب إليه الشيوعيَّة، ولا القضية قضية تطور ديالكتيكي مستمر نحو الحرية الشاملة كما يرى هيغل.

نعتقد بقوة الإنسان الكافية والتي تؤهله لاتخاذ القرار الذي توصله إليه منظومته الثقافية والفكرية (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً)، وهو في هذه أمام خيارين لا ثالث لهما:

الأول: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا)
الثاني: (وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا)

ومن خلال هذه الأسس الأصيلة في العقيدة الإسلامية، ينطلق الإنسان في تعاطياته مع المجتمع البشري، وتحديدًا بالبناء على (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ)، فصلاح المجتمع في نظر العقيدة الإسلامية جزاءٌ لشرط إصلاح النفس المجتمعية، وبالتالي فإنَّ الاقتصاد وآلة الانتاج في الفلسفة الشيوعية، والتطور الديالكتيكي عند هيغل، كُلُّه متوقِّفٌ على قوة العقل وخياراته، وأيُّ انجراف مع التيارات الفلسفية المنتقضة قرآنيًا وعترويًا فهو اتباع للسبل المقابلة للصراط المقرر في كتاب الله تعالى.

يبقى سؤالان أطرحهُما الآن وفي خاتِمَة كل حلقة من حلقات هذه السلسلة:

بأيِّ عينٍ وثقافةٍ ونَفْسِيَّةٍ ورُوحيَّةٍ نقرأ كتابَ الله المجيد وأحاديثَ المعصومين (عليهم السلام)؟

هل نحن على الطريق الصحيح أو أنَّنا في حاجة إلى مراجعات عاجلة وجادَّة جِدًّا؟

نلتقي في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى..


25 يناير 2015

1 comment:

  1. لا نحن في حاجة إلى مراجعات عاجلة و جادة جداً

    ReplyDelete