لم تكن المؤشراتُ حينها تنبئُ بإمكانيةِ ولادة رجلٍ سيغير التأريخ، وسيتمكن من صناعة عصرٍ جديد، يسمى ما قبلهُ بعصرِ الجاهلية، ويتمكن من جعلِ هذا المجتمع الجاهلي هو المُصَدِّرُ لوعي العالم بأسره، فينتزعَ معتقدات المجتمع الجاهل
من عقولهم ليغرسَ مكانها العقيدة القويمة والسديدة، ويقود المشروع الضخم لتكون "رسالة محمد" صلى الله عليه وآله.
لو خططَ النبيّ في بدء نهضته بالدين الإسلامي لنشرِ الإسلامِ في أرجاء الكرة الأرضية خلال عامٍ.. عامين.. عشرة.. طيلة حياته.. لما تمكن من نشر الدين الإسلامي لخارجَ مكة لأنه حينها سيكون منشغلًا بنشرهِ دونَ أن يؤسس أركان وقواعد هذا الدين، كما أنه سيهتم كثيرًا بالنتائج، مما سيؤدي به لإهمال المعطيات!
قد تحتاجُ دقائق لهدمِ أي بناء، ولكن لإعادة بنائه لن تكفيك الساعات، لأن الهدمَ وإن احتاج لخطة محكمة إلا أنه يعتمد على الخلط والعشوائية، بينما البناء بالإضافة للتخطيط، يحتاج للدراسة، والبحث، والجهد والعمل الحثيث والتنظيم، والوقت وووو... لذلك فبناء مجتمع مثلَ قريش الذي انغمس في الهدم، والجهل، لن يكون بالأمرِ اليسير، ومن غير المنطقي أن يُبنى في ظرفٍ زمانيٍ سريع، إذ لا بد له من خطة طويلةِ الأمد، بالإضافة لنشر هذا الدين الواجب، فهي تقف على مواطن ضعف هذه الأمة وهذا المجتمع لتصلحهُ مما يعانيه.. وتذلل المعوقات التي تعطل عملية إصلاحه!
لذلك كان لا بد لمحمدٍ من أن يسقط نظام المجتمع الداخلي، وفقَ خطتهِ المدروسة، ثم يبدأُ مرحلة البناءِ في ذات الخطة، فكانت من مقومات مشروع محمد -ومن قبل الدعوة- أنهُ كان مثالاً يُحتذى بهِ في التربية والأدب والأخلاق، حيث أنه تم وصفه بالصادق الأمين، قبل أن يعلم أحد بنبوته ورسالته، وهذا عامل مهم في رسالة محمد، حيث يتضح منه أن تهذيب النفس وإصلاحها يجب أن يكون الخطوة الأولى قبلَ البدء في إطلاق المشروع الرسالي الكبير هذا، وبصورة أعم، فإنَّ أي تغيير في أي مجال، لن يكون إلا إذا كانت نقطة انطلاقته من الذات أولاً..
المرحلة الثانية، التي كانت من إرشادات الله بواسطة جبرائيل عليه السلام، كانت نقطة الانطلاقة الحقيقية لذلك المشروع، تمثلت في قوله "اقرأ" ولا يمكن أن يكون لفظ اقرأ كبداية للدعوة الإسلامية هو لفظ عبثي تم اختيارهُ عشوائيًا، بل هو رسالة تبين وتشرح أهمية العلم والقراءة والبحث في نجاح أي مشروع، لا سيما إن كان المشروع هو الرسالة الأولى..
لم يكن بمقدورِ محمدٍ أن يصرِّح أمامَ قُريشٍ بأنه رسولُ الله، وأنه يدعوهم لعبادة الله الواحد، والبراءة من أصنامهم، لأنهُ بهذا الفعل سيصطدمُ مع كبار شخصيات المجتمع وأصحاب مواريثه المجتمعية، وعقائدهِ، وسيُواجهُ بحملةٍ شرسةٍ قد تنبذ وجوده أصلًا، لذلك بدأ محمد النبي بأفراد المجتمع من حوله والمقربين له، فكان اختياره للإمام علي والسيدة خديجة ليعرض عليهما أمر دعوته، ومشروعه الكبير، ثم يبدأُ بالتوسّع، حتى تنتشر فكرة الدين، وعبادة الله.. لكن لم يكن انتشارُ الدين هو الهدف، بل كان مشروع محمدٍ يعتمد على إصلاح الأمة من كل خلل كان أو سيكون، وانتشار المبادئ والقيم السليمة التي يدعو لها الدين، لذلك كان لابد له من تأسيس حالة ثقافية في المجتمع تتحمل مسؤولية وهم التوعية لصالح مبادئ وقيم الدين، الأمر الذي التبس على الكثيرين، وجعلهم يتعاملون مع الدين بسلوكٍ يفرغهُ تمامًا من مضامينه الراقية، ويتمسكون بالدين كتمسكهم بطقوس عبادة الأصنام، انحناءات لربٍ ما، بدون أي روحٍ وعقلٍ يفقه معنى العبادة، وجوهر المعبود!!
هذه كانت لمحات سريعة، من انطلاقة المشروع الإسلامي للنبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله، نحتاج التمعن فيها ومراعاتها قبل انطلاقتنا في أي مشروعٍ سنطرحهُ للمجتمعِ لإحداث تغيير، ما دمنا نعي أننا نعاني من خلل ما في المجتمع، فلابد لنا من عدم التفكير في الإستسلام لهذا الخلل، والاجتهادُ في إصلاحه، وإن استعصى علينا نُسارعُ في إسقاطه ..
كي نتمكنَ من إدارةِ مشروعنا، وحمل وتفعيل مشروع محمدٍ النبي، لابد لنا من البدءِ من ذواتنا، نلتزمُ نحن بمبادئ هذا المشروع وهذه الرسالة، ونبدأ في أن نكونَ صُنَّاع جيلٍ ملتزمٍ واعٍ، بالإضافة لعدم التوقف عن القراءة وطلب العلم، والتثقيف في شتى المجالات، كما يجب أن لا نتوقع نتائج سريعة، وأن لا نضع خطة تنتهي في ظرف أشهر أو سنين معدودة قصيرة الأمد، بل تكون خطتنا ممتدة لسنواتٍ عديدة، نعمل عليها، ويستلمها من بعدنا الأجيال القادمة، ليكملوا المشوار!!
نبدأ من أنفسنا، لنصل لـ كل من حولنا بالعودة لمنهاج محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله، فنحمل على عاتقنا مسؤولية تفعيل وتطبيق ما أسسه محمدٍ النبي آنذاك..
لي عودة في الأسبوع القادم، في تسليط الضوء على جانبٍ آخر من دعوة محمد، لتساعدنا في فهم هذا المشروع وخصائصه.
31 مايو 2014
No comments:
Post a Comment