Friday, May 23, 2014

ضرورة مراجعة الأفكار

طلب مني تكوين طاقم للنظر في انخفاض معدل الجودة لأحد المنتجات الصناعية.. تكوّن الطاقم من مهندس مخضرم وسوبرفايزر ومدير المصنع وأنا.. كنا نجتمع يومياً واستمرت الإجتماعات لعدة أشهر نظراً لصعوبة الوصول إلى الأسباب الرئيسية التي ساهمت في انخفاض معدل الجودة بعد أن كانت لسنوات فوق المعدل المطلوب. كانت الإجتماعات ساخنة جداً خصوصاً بيني وبين المهندس، فالمهندس عمل في مهنته هذه لأكثر من أربعين عام، وهو مهندس فاهم وذكي ومطلع جداً على دقائق الأمور فيما يتعلق بالتصنيع لتلك المنتجات. وكان ولا يزال -على الرغم من كبر سنه إذ قارب عمره السبعين- عالي الهمة، نشيطاً، مثابراً، لا يكاد يهمد طوال يومه العملي، فهو يتجاوز همة ونشاط أي شاب في العشرين من عمره. وهو نظراً لخبرته الطويلة ومعرفته الدقيقة صلب الفكرة وقوي الحجة، إضافة إلى ذلك كان لا يجامل وحاد المزاج قليلاً. كانت الحدة في الإجتماعات بيني وبينه بسبب أنني حاولت -ربما من وجهة نظره في بداية الأمر- أن أهز ما كان يعتقده من مسلمات في مجاله الهندسي لأكثر من أربعة عقود معتمداً على أمرين علميين: دقة التوثيق وعلم الإحصاء، وقد كانا جديرين بأن يحسما بعد عدة تجارب الخلاف بيني وبينه، فالمعلومات العلمية ونتائج التجارب كانت هي الفيصل.

وقد مرّ المهندس بعدة مراحل خلال عدة الأشهر التي عملنا فيها على هذا المشروع وهي:

1) العناد، إذ كان معارضاً تقريباً لمعظم التجارب التي أردنا القيام بها،

2) الصمت والتسليم، وهي مرحلة عدم النقاش والقبول بعمل تجارب كانت بحسب وجهة نظره تافهة لن تجدي نفعاً ولكنه سلّم بأن يقوم بها فقط لإن إرادة الطاقم أكبر من محاولاته إقناعه،

3) الشك، وهي مرحلة حقيقية صارحني بها في حينها وبعد ذلك مرات عديدة،

4) الإقتناع، وهي مرحلة حسمت فيها دقة وقوة التوثيق ونتائج التجارب الأسباب التي ساهمت في انخفاض معدل الجودة.
 
ما يهمني من هذا المثال عدة أمور أطرحها كالتالي:

1) من الضروري جداً مراجعة أفكارنا مراجعة دورية وتقويتها وتطويرها، فكم من الأفكار نكتشف بعد سنين من اعتناقها بأنها أفكار غير سليمة وخاطئة.

2) عدم الخوف من مراجعة أفكارنا ومعتقداتنا، وضرورة العمل على تحصيل العلم دعماً أو دحضاً لتلك الأفكار.

3) ليس من العيب أن نكتشف خطئاً ما في أفكارنا ولكن العيب كل العيب أن نغلق عقولنا عن التفكير حتى في مناقشة ومراجعة تلك الأفكار إما خوفاً أو غروراً.

4) ضرورة تقبل الإنسان وتعويد نفسه على التغيير عند اكتشاف الخلل في بعض أفكاره وقناعاته واعتماد الأفكار الصحيحة.

5) ضرورة اعتماد منهج علمي منضبط في مراجعة الأفكار والقناعات، فليس الهدف من المراجعة التشكيك، بل الهدف الكشف عن حقيقة الأفكار، وهي عملية تحتاج أن تكون منضبطة، فالشك الدائم له آثار سلبية في البناء الفكري والسلوكي للإنسان.
 
لا يوجد حصر في عملية المراجعة، فهي قد تكون في الأفكار أو السلوكيات، أو العادات والتقاليد أو غيرها. وهي كذلك غير مختصة في المجال العملي، بل تشمل المجال التربوي، والإجتماعي، والإقتصادي، والسياسي، وغيره. 

فيما يتعلق بالمراجعة مع النفس، فالمطلوب هو التجرد والموضوعية والتفكير المستمر وكذلك تهيئة النفس على التغيير إذا ما استلزم ذلك بناءاً على عملية المراجعة. أما فيما يتعلق بالمراجعة مع الآخر، نقاشاً كان أم عملاً، فهناك عدة أمور من الجيد أن نلتفت إليها: 
 
1) سعة الصدر، فمسألة مراجعة القناعات والأفكار ليست بالعملية السهلة التي بمجرد أن نطرح ما نعتقده صحيحاً، فإن المطلوب من الآخر الإذعان والتسليم.. لا.. ذلك لأن عملية تغيير القناعات والأفكار تحتاج إلى وقت وجهد، فقد تكون الفكرة قد وصلت واضحة، لكنها تحتاج إلى هضم وقبول نفسي. 
 
2) التواضع، فالهدف ليس إحراج الآخر أو محاولة فرض الأفكار والقناعات التي نراها سليمة من وجهة نظرنا، وربما للآخر وجهة نظر مخالفة، بل الهدف هو المراجعة لأفكارنا وأفكاره، قناعاته وقناعاتنا. والتواضع من شأنه أن يسهل عملية التفاهم والحوار والعمل.
 
3) الحزم في المراجعة، فليس المطلوب أن يكون الإنسان مسلّماً لما يقوله الآخر تبعاً لأسلوبه، وهذه عملية للأسف مؤثرة جداً علينا كبشر، إذ أن أسلوب الآخر له أبلغ الأثر في قبولنا أو رفضنا للأفكار والقناعات، فقد نعتنق فكرة خاطئة لمجرد أن قائلها استخدم أسلوباً راقياً في إيصال الفكرة، وقد نرفض فكرة صحيحة لأن صاحبها لم يستخدم إسلوباً جيداً في إيصال فكرته. وهذا خلل يحتاج منا إلى انتباه والتفات، فأسلوب الآخر مجرد مساحة لإيصال الفكرة وليس للاعتقاد أو الإلتزام بها. 

ز.كاظم
23 مايو 2014

No comments:

Post a Comment